لا حياد في الموضوع الوطني. والنقاش الاندفاعي حول الكثير من القضايا وإن كان يعبّر عن وجهات نظر تستند إلى خبرات ومواقف صادقة، إلا أنه قد يفتقد الموضوعية ويحيد عن الصواب في الكثير من الأحيان. القصة ليست أن تكون مع فلان أو ضد علان أو مع التنظيم الفلاني أو ضد التنظيم العلاني، القصة أن الإنسان يجب أن يعرف أين يقف تحديداً، وكيف يقف وكيف يعبر عن موقفه.
سيظل الناس يتذكرون أن يحيى السنوار ظل يقاتل حتى الرمق الأخير. وهذا مهم لنا كفلسطينيين. انتبهوا للصورة التي يرفع فيها العصا محاولاً إسقاط الطائرة رغم جرحه النازف، إنه الفلسطيني الذي لا يستسلم. هذه الصورة مهمة لنا كفلسطينيين، إنه صراع الإنسان في وجه آلة البطش، إنه نحن ونحن ندافع عن أنفسنا بكل ما نملك. تذكروا أن الرجل اجتهد وفعل ما ظن أنه صواب، وفي يقين جمهور شعبنا، إن قتال العدو لا يكون إلا فعلاً محموداً رغم كمية الألم والجراح والعذاب والثمن الباهظ الذي ندفعه، لكن أي خيار آخر لنا! هذا شعب لا يمكن أن يكسر. الصمت في القضايا الكبرى أيضاً انحياز في غير محلّه وعجز لا يمكن التسليم به. تذكروا أن الرجل آمن بما فعل ومات دون ذلك. لقد مات كما يليق بالأبطال أن يموتوا: في المعركة. كان يقاتل وجهاً لوجه. هذه صورة الفلسطيني الأثيرة في وعينا. إنها الصورة التي تشبهنا وتعبّر عنا. فرغم الجراح والعذاب ورغم ما نتعرض له، فنحن نقاتل بكل ما نملك، حتى أنّ بقاءنا في البلاد بلا قوة ولا حول هو قتال، لأنه يعني إفشال كل مخططات العدو. الفلسطيني لا يعرف الهزيمة، لأنه لو عرفها لمات وانتهت القضية منذ النكبة حين أرادوا كنسنا من البلاد مثل الغبار عن عتبات البيوت، لكننا بقينا وواصلنا وسنواصل. هكذا يمكن تلخيص قصة حياة الرجل منذ نعومة طفولته وسجنه في ريعان الشباب حتى استشهاده في معركة مع العدو.
أعرف كل ما يمكن أن يقال، وأعرف ذلك جيداً لأن « حماس » حاولت اغتيالي حين كان السنوار رئيساً لها بجانب ما تعرضت له من ملاحقات وسجن. وخلال نقاش مع العديد من الإخوة الذين تعرضوا للاعتقال ومحاولات الاغتيال مثلي، خلال نفس الفترة، كان ثمة اتفاق على أنه لا ضرورات ولا مبيحات في الموضوع الوطني ولا مكان رمادياً فيه، فهناك فلسطين وهناك عدو واحد؛ فالمذبحة والإبادة لم تستثنِ أحداً. القصة ليست في الاختلاف كما أنها ليست في الاتفاق، بل في فهم طبيعة الصراع. ثمة خلاف داخلي مع «حماس» وهو أمر يمكن أن يكون جزءاً من صناعة السياسة الكلية لأي بلد، صحيح أن مكامن الخلاف ليست مقبولة، كما أن حقيقة وجود اختلاف وطني داخلي أمر غير مقبول بشكل عام خاصة مع وجود الاحتلال إلا أنها حدثت، لكن يجب الانتباه لضرورة الحاجة لفهم أوسع لذلك؛ حتى لا يتم تغليب هذا الاختلاف على الصراع الأساسي وعلى مقاصد النضال الوطني التحرري. دائماً يمكن أن يوجد خلاف داخلي في أي نظام سياسي، كما يمكن أن يصل الأمر حد الاقتتال، وهذا أيضاً مرفوض في السياق الفلسطيني؛ لأنه يعيق مسيرة الكفاح الوطني، لكن أيضاً دائماً يجب تغليب الفكرة الوطنية الشاملة الواسعة على ضيق الطريق وهنّات وعثرات السير المشترك. يبدو هذا الفهم ضرورياً حتى لا ننزلق في أي اتجاه آخر، اتجاه يبعدنا عن السير نحو الغاية المقصودة. من هنا، فإن مثل هذا القول يجب أن يذكّرنا دائماً بأننا نختلف من أجل أن نصل لفكرة ولوسيلة أفضل وليس لفكرة أفضل، لأن ثمة فكرة واحدة، نعرفها عميقاً وهي أقرب إلينا من حبل الوريد؛ بذلك أقصد فلسطين والكفاح من أجلها وفي سبيلها.
هل ثمة غاية أخرى غير ذلك؟ بالطبع لا توجد أي غاية إلا البلاد التي نحلم بها، وكل من يقاتل من أجل ذلك هو حالم مثلنا ولا نتمايز عن بعضنا بعضاً بذلك، لأن البلاد لنا كلنا، وكل فرد منا يرى أنها له وحده دون خلق الله، وهذا جوهر الانتماء الحقيقي حيث يشعر الفرد بمسؤوليته الفردية والحصرية عن الدفاع عن الفكرة، ولكنه في خضم ذلك يجب أن يقدّر أن الآخرين لهم نفس التفكير ونفس الإحساس.
مرة أخرى، إن الاختلاف في الموضوع الوطني لا يكون على الأهداف والغايات بل على السبل والوسائل، كما لا يمكن في أي لحظة أن يتفق أحدنا على أخيه حتى لو كان لهذا الأخ ممارسات مسّتنا وآذتنا، ولكن حسبنا أن نقول: إن النضال من أجل فلسطين يحتمل الاختلاف، وإن مَن يناضل من أجل البلاد تَغفر له كل البلاد.
النهايات هي التي تصنع القصص، وأنا كروائي أعرف ذلك جيداً، ولكن قبل كل شيء كفلسطيني أعرفه بشكل أفضل وأكثر عمقاً. النهاية هي التي تحدد مصير أي قصة في وعي الناس، لأنها ما يتم تناقله من الحكايات، ليس لأن الناس تعشق النهايات، بل لأنها آخر ما يبقى من صفحات الكتاب، وآخر ما يعلق في ذهن الناس منها. والصورة التي قاتل فيها قائد فلسطيني ببندقيته، ثم حين يصاب وتنفذ ذخيرته وتبتر يده، يواصل النضال حتى بعصاه، هي الصورة الأخيرة في الألبوم، الصورة التي سيتذكرها أطفالنا، وهي الصورة التي نحب أن يتذكروها، وهي ما سيتذكره العالم غداً بعد نهاية الحرب. إنها صورة الفلسطيني الذي لا يعرف الهزيمة؛ لأن الهزيمة ككلمة غير موجودة في قاموسه. نعم هذا هو المشهد كما ستتم روايته لاحقاً، وهذا ما سيقوله التاريخ. يجب توظيف هذا الوعي في سرديتنا الوطنية، والاستناد إلى عناد وبطولة الفلسطيني في نضاله إلى مثل هذه الصورة التي كانت آخر ما خبرناه من حياة الراحل أبو إبراهيم.
علينا أن نحذر أن نقف على الضفة الخطأ من نهر التاريخ.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية