لم تعلن إسرائيل من قبل، عن معظم اعتداءاتها التي استهدفت شخصيات أو مواقع إيرانية داخل إيران أو خارجها، ومنذ عشرة أيام، وهي تعلن مسبقاً عن توجيه ضربة قوية الى إيران، وذلك في سابقة تكاد تكون هي الأولى من نوعها منذ عقود شهدت التوتر بين الدولتين الشرق أوسطيتين، اللتين لا حدود جغرافية بينهما، وإسرائيل تهدد بضرب إيران مسبقاً هذه المرة، وذلك كرد على قصف إيران يوم الثلاثاء الأول من الشهر الجاري، لثلاث قواعد عسكرية إسرائيلية بأكثر من 180 صاروخاً باليستياً، ذلك القصف الذي جاء بدوره كرد إيراني على اغتيال إسرائيل للشهيد إسماعيل هنية في طهران في آخر شهر تموز الماضي.
إسرائيل تراجعت، ولم تضرب إيران بعد ساعات من الضربة الإيرانية التي تلقتها، كما كانت قد أعلنت مباشرة، ومن ثم ها هي تتلكأ أياماً، ورغم أنه قيل بأن السبب يعود الى حلول عيد رأس السنة العبرية، في ذلك اليوم، إلا أن السبب الحقيقي لم يكن كذلك، فقد صارت إسرائيل، بعد الضربة الإيرانية التي أعادت توازن الردع بينهما، تفكر جيداً قبل توجيه أية ضربة لإيران تحديداً، وقد قيل بأن واشنطن قد حذرت إسرائيل من قصف المفاعلات النووية، ومن ثم اقترحت عليها أن تفكر جيداً في هدف الضربة، بما في ذلك تجنب قصف آبار النفط، خشية ارتفاع أسعاره على المستورد الأوروبي، فيما إيران، التي شعرت دون شك، خلال شهرين فصلاً بين اغتيال هنية على أرضها، وبين ردها بقصف القواعد العسكرية الإسرائيلية بأنها قد تعرضت لخدعة أميركية_إسرائيلية، حين عرض عليها وقف الحرب على غزة مقابل عدم الرد، وعلى ذلك فإن إيران على ما يبدو تمارس مع إسرائيل نفس اللعبة.
فهي أولاً لم تصمت إزاء التهديدات الإسرائيلية، وهددتها برد أقسى على الرد، بما يعني أن خطر الحرب الإقليمية سيزداد، ارتباطاً بهذه الضربة الإسرائيلية وطبيعتها، ويبدو بأن الدولتين قد احتلت كل منهما مكانة الأخرى التي كانت عليها قبل عدة أشهر، فإسرائيل تضع إيران في حالة انتظار لضربتها، كما كانت إيران وحتى حزب الله يعتبران انتظار اسرائيل للرد على اغتيال هنية وشكر، بمثابة جزء من الردع، وبمثابة عقاب، كما أن إيران تتحرك دبلوماسياً، وذلك للتأثير سلباً على التهديد الإسرائيلي، بما يمكنه ان يمنع الرد، أو ان يخفف من حدته، وذلك على طريق البحث في وقف إطلاق النار، بين لبنان وإسرائيل، وذلك عبر جولة وزير خارجيتها عباس عراقجي، الى كل من لبنان وسورية والسعودية، وزيارة رئيسها الى قطر.
لكن الداخل الإسرائيلي عاد "للتوحد" مجدداً وراء بنيامين نتنياهو والجيش، بعد إطلاق الحرب على لبنان، وإن كان قد ترافق ذلك مع إغلاق أفق إعادة المحتجزين الإسرائيليين المائة في غزة أحياءً أو أمواتاً، بصفقة أو عبر العمليات العسكرية المحددة، وذلك بعد أن كان مركز ثقل الحرب قد انتقل للبنان بناء على مطلب للجيش، لإعادة اعتباره، كما يظن، وهذا ما يفسر تراجع الحديث عن إقالة نتنياهو لوزير الدفاع يوآف غالانت واستبداله بجدعون ساعر، ومعروف بأن غالانت بعد خروج بيني غانتس من مجلس الحرب، بات هو المفضل لدى واشنطن، وبعد أن حققت اسرائيل "نجاحات" تكتيكية تمثلت في اغتيال قيادات رئيسية لحزب الله، ولكن سرعان ما عاد الشارع الإسرائيلي للتظاهر مجدداً، من أجل صفقة التبادل، فيما اللغط ما زال يشغل بال مستوطني الشمال، وذلك مع تجدد الخلاف مع واشنطن التي بعد أن أبدت سعادتها باغتيال إسرائيل لإبراهيم عقيلي، عاد الخلاف بينها وبين إسرائيل، حين تفاجأت باغتيال إسرائيل لكل من إسماعيل هنية وحسن نصر الله، وقد تحدث الإعلام الأميركي عن محادثة متوترة كانت بين وزيري دفاع البلدين، الإسرائيلي غالانت والأميركي لويد اوستن، حين أبلغ غالانت أوستن باغتيال إسرائيل لنصر الله، فرد عليه الأميركي قائلاً: معذرة، ماذا قلت؟
وحيث لم يبق سوى ثلاثة أسابيع على الانتخابات الرئاسية الأميركية، فإنه لم يعد بمقدور جو بايدن أن يحلم بإنجاز صفقة وقف الحرب على غزة، أو حتى على لبنان قبل يوم الانتخابات، وإن كان يمكنه أن ينجزها بعدها، أي في الفترة الفاصلة بين فوز أحد المرشحين الرئاسيين، اللذين هو ليس واحداً منهما، وبين خروجه من البيت الأبيض يوم العشرين من كانون الثاني القادم، أما نتنياهو فليس هناك ما يمكن أن يغريه بوقف الحرب، لا في الجنوب ولا في الشمال، قبل يوم الانتخابات الأميركية، وذلك رغم أن رهانه على فوز دونالد ترامب، لم يعد رهاناً ناجحاً، ليس ذلك لأن استطلاعات الرأي ما زالت تمنح المرشحين تقارباً، ولكن لأن ترامب بعد أن كان فوزه شبه مضمون في مواجهة بايدن، وجد نفسه يواجه مرشحةً جدية، هي كامالا هاريس، لذا صار عصبياً، وبدأ منذ وقت يفقد حماس ه، بل تسرب الإحباط الى نفسه، حين أعلن بأنه لن يعود للترشح مرة رابعة، فيما لو خسر هذه المرة في مواجهة هاريس.
هكذا فإن نتنياهو حتى لو أنه فقد الحماس لنجاحه في زج أميركا لخوض الحرب المباشرة مع إيران، في عهد بايدن، فإن محاولته فيما لو نجح ترامب ستكون أسهل، رغم التقديرات التي تشير الى أن داعمي الجمهوريين انتخابياً، أي اباطرة النفط، ليست الحرب خيارهم، كما هو حال داعمي الديمقراطيين من مجمع الصناعات العسكرية، أما في حال فازت هاريس، فإنه سيحاول أن يحرق الدنيا خلال فترة انتقال السلطة.
والحقيقة أن تأخر تنفيذ الضربة الإسرائيلية لإيران، التي يبدو تنفيذها مرجحا، بعد مرور عشرة أيام حتى الآن، بما يؤكد بأن اسرائيل تجري حسابات دقيقة حول المواقع المستهدفة، ليس بسبب الموقف الأميركي، وحيث أن الأمر ليس هو كما تكتيك الحرب الاسرائيلية على غزة، ولا على لبنان، فالهدف الإسرائيلي من تحويل الحرب نحو إيران، هو أن تخوضها أميركا نيابة عنها، أو معها، لا أن تخوضها وحدها، كما فعلت في فلسطين ولبنان، وبعد مفاجآت اسرائيل باغتيال هنية ونصر الله، ها هي حتى اللحظة لا تفصح لأميركا عن هدف ضربتها التي تنوي توجيهها لإيران، وعلى الأقل لم ترد بالموافقة على الطلب الأميركي بأن لا تستهدف لا المنشآت النووية، ولا المرافق النفطية، الأولى حتى لا يكون ذلك اعلاناً بالحرب الإقليمية الشاملة، حيث لن تجد أميركا بداً من خوضها، والثانية حتى لا يثقل ارتفاع أسعار النفط كاهل شريك أميركا الأوروبي.
وأميركا قابلت رفض إسرائيل قبول تجنب هذين الهدفين، مع عدم أخبار أميركا حتى اللحظة بأهدافها، بتوجيه الدعوة لغالانت لزيارتها من أجل الإحاطة بهذا الأمر بالتحديد على الأغلب، وهنا تدخّل نتنياهو وحاول أن يمنع غالانت من السفر لأميركا، قبل أن تعلن أميركا عن دعم الضربة الأميركية أياً تكن؟!
بل إن عودة التوازن في معادلة الردع بين إيران وإسرائيل، بعد عملية الوعد الصادق 2، كانت هي السبب في تريث إسرائيل بتوجيه الضربة لإيران، بعد أن سارعت للإعلان عن ذلك فور تلقيها ضربة الوعد الصادق 2، خاصة وأن إيران ردت بوضوح على التهديد الإسرائيلي، الذي ترافق مع حديث عن استهداف المنشآت النووية، وهي عشر منشآت منتشرة في أنحاء إيران، أو المنشآت النفطية، بتحديد بنك أهداف معد سلفاً، أي أنها لن تنتظر للرد، ويتضمن بنك الأهداف الإيراني مفاعل ديمونا النووي، وتيروس للصناعات النووية الإستراتييجية، ومنطقة يودافيت النووية، صناعات ألبون النووية التكتيكية، كذلك موانئ حيفا وعسقلان، ومدينة تل أبيب، وشركة رفائيل للصناعات العسكرية وحقل نفط كاريش. أي أن إيران في الوقت الذي تحرص فيه على عدم تحقيق رغبة إسرائيل بإزالة العائق أمام مشاركة أميركا المباشرة في الحرب ضدها، فإنها باتت تقيم معادلة ردع، وفق قواعد اشتباك، تشبه تلك التي كانت قائمة بين حزب الله واسرائيل، وجوهرها، الرد بالمثل، الرد على ضرب المفاعلات النووية بضرب مثيلتها، وضرب القواعد العسكرية مقابل القواعد العسكرية والموانئ مقابل الموانئ وهكذا.
أما أميركا فما زالت عند موقفها، الرافض دخول الحرب حين تبادر لها إسرائيل، وهذا ما اكده اوستين لغالانت بصراحة حين أخبره باغتيال نصر الله، حيث سأله إن كانت إسرائيل مستعدة لتكون وحدها فيما يتعلق بالدفاع عن النفس، على ضوء أن اسرائيل لم تخبر أميركا مسبقاً عن هجومها الذي استهدف نصر الله.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية