لا يزال بنيامين نتنياهو يمسك بمقود الصراع الدّامي، الذي يتجاوز جغرافياً أرض فلسطين التاريخية، ويتجاوز أهدافه ما دأب على ترديده ليتّخذ أبعاداً إستراتيجية تتصل بالمنطقة المحيطة بفلسطين على الأقل.
لم تعد أهداف إسرائيل محدودة، بتفكيك البنية العسكرية والحكومية لحركة « حماس » في قطاع غزّة، وإبعاد «حزب الله» اللبناني عن الحدود لمسافة 10 كم، بهدف حماية المستوطنات في محيط القطاع وفي مستوطنات الشمال المتاخمة لجنوب لبنان.
دولة الاحتلال ومعها الولايات المتحدة وآخرون في أوروبا الغربية، باتت أمام أمر واقع، جرّها إليه نتنياهو تستهدف حسم الصراع على أرض فلسطين بدليل ما يجري في الضفة، فضلاً عمّا يجري في القطاع، وأيضاً القضاء على قدرات «حزب الله»، ونحو التوسّع الاستعماري إقليمياً، سواء عَبر «التطبيع»، أو من خلال تغيير الخارطة الجيوسياسية في محيط فلسطين.
لم تعد الأهداف غامضة أو ينتابها الشكّ، حتى بالنسبة للمحيط العربي الصامت، والمتفرّج حتى الآن، إلى حين أن تصل النيران إلى الأقدام.
لا يصدّق أحد أنّ الولايات المتحدة غير قادرة على ضبط السياسة الإسرائيلية، إذا كانت هذه السياسة تعرّض المصالح والعلاقات الأميركية في المنطقة للخطر، هذا يعني أنّ الولايات المتحدة منخرطة وشريكة بالكامل في الحرب التي تديرها مع دولة الاحتلال، وأنّ محاولاتها لإظهار قدر من الاختلاف لم تعد تنطلي على أحد.
يبدو أنّ ثمّة اتفاقاً على الأهداف، وأن الاختلاف محصور في طريقة إدارة الحرب الإجرامية ليس أكثر، ولا يعدو كونه تبادلاً للأدوار، تتطلّب من الإدارة الأميركية أن تُظهر قدراً من الحيادية المكشوفة.
الإدارة الأميركية تواصل إعلان التزامها بحماية ودعم الدولة العبرية، عسكرياً، ومالياً، ولوجستياً، واستخباراتياً، وسياسياً، وتوفر لها الغطاء تحت عنوان «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها».
حتى حين تبادر دولة الاحتلال إلى الهجوم والتصعيد، وارتكاب الجرائم، تظلّ أميركا ملتزمة بخطاب «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، ولا ترى للآخرين أي حقّ في الدفاع عن أنفسهم.
على مدى ثلاثة أيام منذ الثلاثاء الماضي، ارتكبت دولة الاحتلال جريمة تفجير «البايجر» و»التوكي ووكي»، وقصفت الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية، ما أدّى إلى ارتقاء عشرات الشهداء، ومئات الجرحى، وارتقى خلالها قادة عسكريون على مستوى رفيع من الحزب، تدّعي الإدارة الأميركية أنّها لم تكن على علمٍ مسبق بما قامت به دولة الاحتلال.
ولكن ذلك لا يشكّل فرقاً، فيما تستمر المحاولات الأميركية لمحاصرة دائرة النار، من خلال الضغط، والتهديد، ونشر قواتها العسكرية في «المتوسّط» والمحيط لدائرة الصراع.
الجرائم الإسرائيلية بحق لبنان، لا تشكّل استفزازاً عادياً يمكن تجاوزه، أو أن تحصر ردود الأفعال عليه، في إطار «قواعد الاشتباك» المعروفة.
دولة الاحتلال تسعى لتوسيع دائرة الحرب العدوانية، لتصل إلى أبعد مدى يمكن أن تصل إليه، حتى لو أدّت إلى انخراط إيران في الحرب، وزعزعة الاستقرار في المنطقة برمّتها.
إذا كان ثمّة خيارات أمام إسرائيل لتأمين عودة المستوطنين إلى المستوطنات الحدودية لجنوب لبنان، كما يتحدّث نتنياهو، فإنها تواصل وضع العقبات أمام الحلّ الدبلوماسي الذي تقوم به الإدارة الأميركية.
الجرائم الأخيرة بحقّ لبنان أقفلت الطريق أمام الحلّ مع الحزب، ذلك الحلّ كان محكوماً عليه بالفشل لسببين: الأوّل، الفشل في الفصل بين ما يجري على جبهة لبنان عمّا يجري على جبهة غزّة والضفة الغربية، والسبب الثاني، يتعلّق بإصرار نتنياهو وحكومته الفاشية على اعتماد الحلّ العسكري، ومواصلة الحرب الدموية لتحقيق أهداف فشل حتى الآن في تحقيقها.
ومع هذا التصعيد على الجبهة اللبنانية، تنطوي صفحة الوساطة والأمل بإمكانية تحقيق صفقة تبادل تؤدّي إلى تهدئة، وإلى تغيير مسارات الأحداث، ما يعني أنّ الأوضاع تتجه نحو مسار واحد هو تدحرج الأوضاع نحو حربٍ واسعة في مدى زمني مفتوح.
في ردّه على الجرائم الإسرائيلية، عبّر حسن نصر الله أمين عام الحزب عن التزامه بالمعادلة التي يفرضها دور الحرب، باعتباره دوراً مسانداً، ووعد الإسرائيليين، بردّ موجع.
ثمّة فارق كبير بين استمرار الحزب في دوره المساند، والالتزام بـ»قواعد الاشتباك» وبين أن ينخرط في الحرب بكلّ ما يملك من قوّة.
ردّ الحزب جاء محسوباً، إذ وسّع دائرة الاستهدافات إلى جنوب وشرق مدينة حيفا، واستخدم أنواعاً جديدة من الصواريخ وبعدد أكبر من المعتاد، ولكنّه، أيضاً، حرص على أن يتجنّب استهداف المدنيين والمنشآت المدنية، وركّز قصفه على قواعد عسكرية.
يريد الحزب أن يميّز نفسه عمّا تقوم به دولة الاحتلال من استهداف للمدنيين والبُنى التحتيّة، ليقدم نموذجاً وقيماً مختلفة عن قيم جيش الاحتلال الذي يتجاوز كل قوانين إدارة الحروب، ويرتكب مجازر إبادة جماعية، ويستهدف المدنيين من كلّ الأعمار.
ثمّة من لا يزال يشعر بخيبة أمل إزاء السياسة التي يتبعها الحزب في الردّ على الجرائم الإسرائيلية، بل إن بعض هؤلاء ظلّ يشكك في دور الحزب، وكل «محور المقاومة» إزاء مصداقيته في الالتزام بهدف إلحاق الهزيمة بدولة الاحتلال ومشروعها الكولونيالي.
برأينا أنّ الحزب يدير بحكمة مشاركته في هذه الحرب التدميرية والدموية، سواء من خلال منطق وضوابط الإسناد، أو إن تطلّب الأمر ما هو أكثر من ذلك.
«حزب الله» يدرك طبيعة وتداعيات وأهداف وآفاق الصراع الجاري، وهو مستعدّ لخوض التحدّي إلى أبعد مدى، لكنه، أيضاً، يدرك الثمن الذي يترتّب عن دوره.
لبنان يتعرض لضغوط شديدة خارجية وداخلية، وإلى تهديدات متواصلة من الولايات المتحدة وحلفاء الدولة العبرية «الغربيين»، وفي ظلّ ظروف داخلية معقّدة، وصعبة على اللبنانيين.
لذلك، فإنّ قيادة الحزب تُظهِر قَدراً عالياً من الصبر إزاء ما تقوم به دولة الاحتلال من جرائم وأثمان يدفعها الشعب اللبناني، لسببٍ منطقي.
يري الحزب الذي يعرف تماماً أنّ حالة الحرب الشاملة قادمة بمبادرة ودوافع إسرائيلية، ويحاول جاهداً أن يُبرّئ ذمّته إزاء ما قد يواجهه الشعب اللبناني من آلام، وبأنّ الحزب لم يدّخر وُسعاً في تجنيب بلاده ويلات الحرب العدوانية، لكنه لم ينجح، وهو مضطرّ للذهاب إلى الحرب بكلّ طاقته لأنّ دولة الاحتلال تريد ذلك، وتفعل كلّ شيءٍ من أجل ذلك.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية