حاولنا على مدار كل الحلقات السابقة أن نُبيّن أن "طوفان الأقصى" لم يكن سوى عملٍ إستراتيجي مدروس، وليس مغامرةً بغير حسابات، أو لحساباتٍ من خارج القرار بإحباط المخطّط الصهيوني الذي وضعته دولة الاحتلال في جدول الأعمال، وخصوصاً بعد صعود "اليمين" الإسرائيلي الجديد، وتبوؤ الجناح الفاشي من هذا "اليمين" مفاصل أساسية من نظام الحكم، بهدف تصفية القضية الوطنية، وإنهاء كل مرتكزات المشروع الوطني الفلسطيني.
وقلنا إن أصحاب نظرية "المغامرة"، والذين يعتبرون أن "الطوفان" كان عملاً مرتجلاً ناتجاً عن حسابات مشوّشة، أو موهومة، وربما لاعتبارات خاصة وضيّقة يرون، وبعضهم ما زال يرى حتى الآن أن دولة الاحتلال قد وجدت "ضالّتها" في هذا العمل بهدف حسم الصراع لصالح هذه الدولة ومشروعها، وأن المشروع الصهيوني أصبح أمام فرصة "نادرة" وفّرتها له الحسابات الخاطئة والمشوّشة والضيّقة.
برأينا أنّ هذه النظرة هي في الجوهر قاصرة، ومشوّشة وموهومة، وذلك لأنها تحصر المسألة برمّتها في زاوية وحيدة ــ على أهميتها الكبيرة ــ وهي زاوية فداحة الخسائر والتضحيات، لأن هذه الفداحة لا تصلح كمقياس وحيد للتقييم، إلّا إذا كانت سبباً مباشراً لما يسمّيه أصحاب رأي المغامرة النكبة أو الكارثة، وإلّا إذا استطاعوا أن يثبتوا بالاستنتاج المنطقي، الحسّي والملموس بأننا ذاهبون إلى النكبة أو الكارثة لا محالة، وبأن دولة الاحتلال قد انتصرت انتصاراً مطلقاً ونهائياً، وعليهم كذلك أن يثبتوا أن هذه التضحيات قد ذهبت في مهبّ الريح، وأنّها في وضع إستراتيجي أفضل مما كانت عليه قبل "الطوفان"، وأنّ هذه الدولة قد أزالت كل التهديدات التي كانت، والتي برزت في سياق "الطوفان" وأنها قد أصبحت بعده، وبعد "النكبة" التي أدّى إليها دولة مهيمنة، ومسيطرة على الإقليم، تعيش في أعلى مراحل قوتها على الردع، وأنّ مؤسّساتها العسكرية والأمنية استعادت هيبتها، وتماسك مجتمعها خلف الدولة، وتوحّدت جهودها وأُعيد صهرها في فرض شروطها على كامل الإقليم، بعد أن تنامى دورها الإقليمي، وتعزّزت مكانتها، وهي في النتيجة النهائية ــ بالرغم من أن الحرب ما زالت تدور بكل الوسائل، وبأعلى الوتائر ــ أحكمت سيطرتها، وستتمكن ــ في ضوء ذلك كله ــ من طرد الفلسطينيين، أو الجزء الأكبر منهم، وأنّها ستشطب القطاع، وتشق "طريق بن غوريون"، وستتمكن من طرد الجزء الأكبر من سكان الضفة لتقيم دولة المستوطنين في مكانهم، للتحكّم بمن سيتمكّن من التواجد والبقاء في كل الضفة، بعد أن تُطْبِق عليهم دولة الاحتلال، ودولة المستوطنين، وتضعهم بين فكّي كمّاشة المشروع الصهيوني نحو حسم الصراع.
دون ذلك لا يمكن الحديث عن كارثة أو نكبة وطنية، وفقط إذا كان هذا هو حال دولة الاحتلال، وكانت على هذه الدرجة من القوة والتماسك، وكان جيشها وأجهزتها على هذه الدرجة من المهابة والقدرة، وكان دورها ومكانتها على درجة عالية من الاستقرار والتنامي والتمكّن.. يمكن الاستنتاج - من زاوية المنطق الوطني الحريص والمخلص - أنّ ثمة كارثة وطنية، ونكبة كبرى، هي قد حصلت بالفعل، أو هي على الأبواب.
دعونا وفق هذا المنطق الوطني بالذات نذهب إلى محاكمة عقلية لهذه الأطروحة.
لم يكن في هجوم "الطوفان" أيّ عنصر من عناصر التسرّع أو الارتجال، ولا حتى التفرّد.
فقد سبقته اجتماعات معلنة عن اجتماعات "تنسيقيّة" بين عدة فصائل مقاومة في القطاع، وجرى "التشاور" مع "محور المقاومة"، وجرى التنسيق الكامل مع هذا "المحور"، وتمت مناقشة أهداف "الطوفان"، المباشرة والمتوسطة والبعيدة، وتم التشاور بكل التفاصيل باستثناء الموعد الدقيق للعملية، وهذه مسألة مشروعة ومبرّرة تماماً.
والقرار بشأن "الطوفان" هو قرار وضعت في صورته الفصائل كلها بعد ساعات من الضربة/ الصدمة، بما في ذلك فصائل فلسطينية ليست محسوبة بصورة مباشرة على "المحور".
تم شلّ وتعطيل قدرات "فرقة غزة " التابعة لجيش الاحتلال، وتم اجتياح ما يزيد على ثلاثة أضعاف مساحة القطاع، واستطاعت القوات الفلسطينية المشاركة في الهجوم تحييد أكثر من 22 من المراكز والقواعد والثكنات العسكرية، وتم تدميرها بصورة كلّية أو شبه كلّية، وبقيت حالة الإرباك والضياع سائدة بصورة كاملة لمدة زادت على 9 ساعات كاملة، وكانت ردود فعل قوات الاحتلال بعد مرور كل هذه الساعات عشوائية وانفعالية بعيدة كل البعد عن الأصول العسكرية، وعن الردود المحكومة بقواعد العمل العسكري المنضبط والمنظّم.
وارتبكت القيادات السياسية كلها، وارتبكت الولايات المتحدة و"الغرب" كلّه، وارتبك الإقليم كلّه، وتبعه العالم قاطبة في عملية لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً إلى أن بدأ الهجوم الهمجي الساحق على القطاع بدعم كامل من كلّ القوى السياسية داخل دولة الاحتلال، ومن المجتمع الإسرائيلي دون أي استثناء، وبدأت تصل إلى المنطقة البوارج والحاملات والطائرات، وبدأت تتدفّق الأسلحة، و فتح أكبر جسر جوي في تاريخ العالم كلّه، وبمقاييس فاقت الجسور في الحرب العالمية الثانية، وفاقت الجسر الجوي الأميركي لدولة الاحتلال في حرب أكتوبر 1973.
وكانت التقديرات الإسرائيلية التي أعطيت لـ"الغرب"، ولدول الإقليم أن العملية الإسرائيلية للرد على "الطوفان" لن تستغرق أكثر من 6 أسابيع كما تعرف.
وها نحن على أبواب عام كامل من الحرب الدموية ولم تتمكن دولة الاحتلال من تحقيق هدف واحد من الأهداف التي أعلنتها حتى يومنا هذا، مع أنّها استخدمت كل أنواع الأسلحة التدميرية، وأعطيت كل الوقت، ووفّر لها كل أسباب "سحق" المقاومة، وسخّر لها كل ما لدى "الغرب"، وربما ما لدى بعض دول الإقليم من معلومات، ومن خبرات وتقنيات استخبارية، وما زالت فصائل المقاومة تقاتل، وتلحق بقوات الاحتلال خسائر فادحة فاقت كل خساراتها في كل الحروب السابقة.
فهل هذه عملية يمكن أن تكون مرتجلة، أو مغامرة أو عشوائية أو أنها قد جاءت في سياق حسابات مشوّشة وموهومة؟
أليس العكس تماماً هو الصحيح؟
ألم يثبت أنّ هذه العملية قد كسرت هيبة الجيش الذي لا يُقهر؟ ألم تتحوّل قوة الردع الوحيدة لدولة الاحتلال، والحصرية، أيضاً، إلى قتل المدنيين، وممارسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضدّهم، وتجويعهم والتنكيل بهم؟
ألا يعني هذا بالذات عجز هذا الجيش عن القتال الحقيقي بالرغم من كل تفوقه الكاسح، وبالرغم من حشد ما يقارب نصف مليون جندي من القوات النظامية، وقوات الاحتياط؟
وباستثناء عمليات الاغتيال التي يتقنها جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، وباستثناء قتل المدنيين والتنكيل بهم، وباستثناء استخدام كل فنون الحرب الإجرامية من أجل تدمير ونسف المستشفيات والمدارس والجامعات والبيوت، بأنواع عملاقة من القنابل، وبـ"وحدات خاصة" للتفجير، ماذا حققت القوات الإسرائيلية من إنجازات عسكرية على مدار سنة كاملة من الحرب الدموية إلّا في حدود هامشية بالمقارنة مع الإخفاقات المتواصلة؟
فهل كل هذا جاء بالصدفة، أم أنّ المقاومة كانت قد أعدّت عدّتها لحرب طويلة لاستنزاف قوات الاحتلال، ولكي تصل دولة الاحتلال إلى ما وصلت إليه اليوم من إنهاك، وعزلة، ومن عجز ومن إخفاق؟
ثم ألم يكن للتدخّلات والمساهمات المباشرة من قبل باقي أطراف "محور المقاومة" أهمية حاسمة في تفاقم هذا العجز، وفي تواصل الإخفاق، وفي الاستعاضة عن الحرب الحقيقية، بعمليات "الإبهار" الإعلامي البعيدة كل البعد عن خوض الحرب الحقيقية؟
لقد خسرت دولة الاحتلال كل شيء.
خسرت نفسها عندما تحوّل المجتمع الإسرائيلي اليوم إلى مجتمع منقسم، مشتّت واهن وضعيف، يائس ومحبط، لم يعد يرى أنّ "دولته" مؤتمنة، ولا وضعه آمناً، المستقبل غامض ومجهول، قواه السياسية تتنازع فيما بينها على كل شيء، على طريقة العيش، وعلى يوم العطلة، وعلى المأكل والملبس، وعلى الماضي وعلى الحاضر وعلى المستقبل، وعلى دور الدين وعلى الهوية، وعلى دور القوى وعلى دور الأحزاب، وعلى دور الجيش وعلى دور قوى الأمن وعلى التعليم وعلى الصحة.
وخسرت دولة الاحتلال دور المظلومية بالكامل وتحولت في شعوب الأرض قاطبة إلى دولة مجرمة، قاتلة وشرّيرة، دولة مارقة، دولة عنصرية تمارس المذابح بحق المدنيين، وتمارس التطهير العرقي المباشر لملايين الفلسطينيين.
وقد خسرت تحالفاتها مع "الغرب" من زاويتين على أقلّ تقدير؛ الزاوية الأولى، هي زاوية إنكار الحقوق الوطنية والتنكّر لكلّ المواثيق الدولية، والثانية، النظام العنصري الذي شرّعت وجوده، وأرست أسسه على قواعد عنصرية وفاشية ما أفقدها إحدى الركائز الإستراتيجية لدورها ومكانتها الإستراتيجية في هذا الإقليم من دولة لحماية مصالح "الغرب" إلى دولة يحميها "الغرب" لضمان بقائها في هذه المرحلة، وليس لضمان استمرار دورها وسياساتها وكل ممارساتها.
إن خسارة الدور، وتغيّر المكانة في الإقليم هو التعبير الأهم للنتائج التي ستترتب على "الطوفان" مهما كانت باهظة وفادحة التضحيات الفلسطينية.
وخسرت دولة الاحتلال وربما إلى الأبد طبيعة الدولة القوية التي تؤمّن أمنها بالقوة الغاشمة، وهي اليوم الدولة الأقل أمناً في العالم كله، وهي الدولة رقم واحد على صعيد العالم بأجمعه، التي لا تفعل منذ أكثر من 76 عاماً سوى أن تدخل في حرب إلى حرب، ومعارك متواصلة، دون أن تجني حتى الآن ضمانة واحدة لبقائها، ولقدرتها على ضمان مستقبلها.
و"طوفان الأقصى" هو بالضبط أول تهديد إستراتيجي يتصل مباشرة بهذا البقاء، ويرتبط بصورة مباشرة بسؤال مستقبل وجود هذه الدولة.
وانتهى وإلى غير رجعة كامل مسار الدولة المتقدمة لأن النظام الفاشي سيطيح بهذا التقدم، وانتهت مرحلة دولة الرفاه والأمان، ودخلت دولة الاحتلال في مرحلة الدولة العاجزة، وربما هي على أبواب الدولة الفاشلة.
وانتهى الحلم الصهيوني بأن تشكل دولة الاحتلال المكان الآمن ليهود العالم، وانتهى إلى عشرات السنين القادمة في أن تشكل دولة الاحتلال المكان الجاذب لاستثمارات التكنولوجيا العالمية، وتراجعت فرص المشاركة في المشاريع "الغربية" لـ"الغرب"، بما في ذلك "طريق الهند"، و"قناة بن غوريون"، و"قناة البحرين"، وتبخّرت أحلام الدولة العبرية بالاندماج ما بين رؤوس الأموال العربية والقدرات التكنولوجية لدولة الاحتلال، كما أصيبت صناعاتها الأمنية بنكسة قاتلة باعتبارها "فخر" الصناعات الأمنية العالمية، وأصيبت مكانتها الاستخباراتية بخيبة أمل كبيرة بقدر ما يتعلق الأمر بالفشل والإخفاق الذي مُنيت به في جنوب لبنان، وفي اليمن، وقبلها في واقعة "الطوفان"، والأهم خسرت دولة الاحتلال رهانها على فصل القطاع عن الضفة، أو فصله عن القدس ، وذهبت مراهناتها على قضية السنّة والشيعة أدراج الرياح، وطار "التطبيع"، وتبخّر الرهان على عزل القضية الفلسطينية وتجاوزها، ودخلت فلسطين في أعلى مراحل الازدهار السياسي، والمكانة السياسية بعد أن كانت المراهنة الرئيسة للمشروع الصهيوني هي التصفية الكاملة لفلسطين كقضية وأهداف وحقوق، ولفلسطين الوطن والانتماء والصمود والمواجهة حتى اندحار الاحتلال، وحتى تصفية كل تجليات المشروع الصهيوني.
فهل كل هذا يا حضرات أصحاب نظرية "المغامرة" قد جاء صدفة، وهل يتعلق الأمر بضربة حظ سياسي، أم أن "الطوفان" كان أهم "مغامرة" محسوبة في تاريخ الصراع كله؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية