أثير نقاش كبير حول الوثيقة التي وقعها وزير الخارجية الأسبق ناصر القدوة ورئيس الوزراء الأسبق أيهود أولمرت لأكثر من سبب، ولكن من وجهة نظري فإن أخطر ما في الأمر أنها تقدم هدايا مجانية في نقاش غير جدي ولا ذي معنى. فمن جهة فإن الشخص الذي يدور معه النقاش بشكل كامل هو خارج حلبة السياسة الإسرائيلية وليس له أي تأثير على مجريات تلك السياسة ولن يكون له مثل هذا التأثير في المنظور الذي نعرفه ما لم تحدث معجزة، وهو غير قادر على إقناع شخص آخر غير نفسه بما يؤمن به ولا يستطيع أن يسوق أي فكرة سياسية على أي وسط سياسي في إسرائيل. بذلك فإن مثل هذه الوثيقة لن تعني شيئاً غير أنه قد يتخذها البعض ذريعة لنقاش مستوى القبول الفلسطيني أو للحد الذي يمكن أن يصله الفلسطينيون في أي مفاوضات مستقبلية بمعنى أنها قد تكون عبئاً على المفاوض الفلسطيني في المستقبل لأنها تعني أنه يمكن للفلسطينيين أن يقبلوا بكذا وكذا، وفي عالم السياسة مثل هذا الأمر ممكن وقد يحدث. وعليه فمثل هذه الوثيقة بقدر ما أنها لن تعني شيئاً في السياق الإسرائيلي إلا أنها قد تستخدم ضد التفاوض الفلسطيني في المستقبل وضد أي موقف فلسطيني صلب في بعض القضايا مثل اللاجئين و القدس وهي المواقف التي لا تعني صلابة بقدر التمسك بالحقوق التي لا يمكن التصرف بها أو التفكير في التخلي عنها.
ومن المؤسف أن قراءة الوثيقة تصيب المرء بالدوار من قدرة البعض على ادعاء التفاهم حول أشياء لا يملكون حق التفكير فيها لأنها ليست ملكاً لأحد، ولأن الحقوق الجمعية لا يمكن للأفراد أن يتنازلوا عنها لأنها ملك فردي بقدر كونها ملكا جماعيا أيضاً. ومن المؤسف أيضاً أن ما يرد في الوثيقة لا يصيب فقط جوهر الموقف الوطني العام والحد الأدنى الذي لا يتفق عليه الجميع حتى بل إنه يذهب بالحد الأدنى إلى آخر منزع القوس ويشده حتى يصعب بعد ذلك تخيل أين يمكن أن يصل الأمر. هذا أمر في غاية البؤس والحزن. فلا احد يملك أن ينصب نفسه مسؤولاً عن حقوق الآخرين خاصة حين لا يكون له أي صفة رسمية. أي صفة من أي لون كانت. ولا يمكن لأحد أن يفكر أن بإمكانه أن يضع العربة الضخمة المثقلة بالصخور أمام الحصان من أجل سد الطريق أمامه، ولا احد يستطيع أن يعطي نفسه الحق في أن يفاوض باسم الشعب وباسم حقوق المواطنين ما لم يكن مخولاً بذلك، والجهات المخولة بذلك معروفة. هذا خلل كبير ونكسة كبيرة ولا يمكن الوقوع في مثل هذه الهوة بهذه السهولة. الأمر ليس مجرد إعلان وعرض تلفزيوني؛ بل أكبر من ذلك بكثير.
بالطبع أن أي نقد لمثل هذا الاجتهاد يجب ألا يقع في باب التخوين والتشكيك، بقدر البحث في رفض ذلك لاعتبارات قد تمس الموقف الفلسطيني والتوقيت غير السليم لمثل هذه الاجتهادات في الوقت الذي يذبح فيه شعبنا في غزة يتم التفكير في خلق أطر مستقبلية لسلام فيما يجب أن ينصب أي جهد على وقف العدوان على شعبنا والضغط باتجاه إدانة حرب الإبادة وتحريك كل المواقف الدولية من اجل الوقوف في وجه دولة الاحتلال، وليس التفكير في كيف يمكن لنا أن نصنع سلاماً ونقيم اتفاقاً وكأن المشكلة في وجود اتفاق أو عدم وجود اتفاق.
وفيما قد يكون مثل هذا الاجتهاد بحثا عن اتفاق يشكل مخرجاً من حالة الجمود، إلا أن مثل هذا التفكير يقترح قصورا في فهم طبيعة المعضلة الحقيقية التي تواجه مستقبل عملية السلام مع دولة الاحتلال التي لا تريد سلاما أصلا. وربما التمعن فيما يجري من مفاوضات الهدنة أو الصفقة المنتظرة يخبر الكثير عن طبيعة مثل هذا الوعي فدولة الاحتلال لا تريد أي اتفاق من أي شكل مع الفلسطينيين.
المشكلة الحقيقية هي ليست في وجود اتفاق من عدمه بل في حقيقة أن إسرائيل غير معنية بالاتفاق مع الفلسطينيين، وحين تتفق فهي تكون معنية بنقض هذا الاتفاق. وتاريخ عملية السلام التي مر عليها ثلاثون عاماً ونيف يمكن أن تخبرنا الكثير عن ذلك. فحتى اتفاق أوسلو الذي لم يرق للكثير من الفلسطينيين وما زال البعض يعتبره تنازلاً وغير مقبول وطنياً، رغم أنه أسس لوجود السلطة الوطنية الفلسطينية ورسخ الوجود الفلسطيني المؤسساتي في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة أو في الجزء المتاح بكلمات الراحل احمد دحبور، إلا أنه لم ينجح ليس لأنه اتفاق غير مرضٍ لإسرائيل أو انه يشكل هزيمة معنوية ومادية لها بل لأن إسرائيل لا تريد اتفاقا مع الفلسطينيين وهي غير معنية بوجود أي شيء قد يؤخذ على أنه انطلاقة لبناء المشروع الوطني الفلسطيني على التراب الفلسطيني. هذه هي الحقيقة. الفكرة ليست في أننا عاجزن نحن وهم عن التوصل لاتفاق وليس لأن الرئيس الشهيد ياسر عرفات أو الرئيس محمود عباس من بعده غير قادريْن على التوصل لاتفاق بل لأن الاتفاق الوحيد الذي يمكن أن تقبل به إسرائيل هو أن يقول له الفلسطينيون: "نحن آسفون على عدم تقبلنا من البداية لفكرة وجود إسرائيل على ترابنا، وما كان يجب على آبائنا أن ينزعجوا وكان عليهم أن يتركوا يافا وحيفا وصفد واللد والمجدل وبئر السبع والمجدل ووووو طواعية دون أن يعترضوا وأن يتركوا البلاد للقادمين من الخارج". هذا هو الاتفاق الوحيد الذي يمكن أن تقبله إسرائيل وربما على مضض لأنها تريدنا أيضاً أن نكون مرغمين على قبول كل شيء حتى فكرة نفينا وهزيمتنا.
كل هذا وثمة الكثير من الوهن والملاحظات العميقة والوطنية على كل ما جاء من اتفاق خاصة فيما يتعلق كما أسلفت بالقضيتين المركزيتين: اللاجئين والقدس وأيضاً، ويجب ألا ننسى الموقف من غزة وفكرة وجود أجسام خارجية أو استشارية تديرها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية