من بين أحد أكبر أشكال التضليل والخداع هو ما تروّجه، وما تروّج له دولة الاحتلال من أنّها لا تخشى الذهاب إلى خيار الحرب الشاملة، بل يمكن أن "تبادر" إليها، وهي في كل الأحوال تتجهّز للدخول بها، وقد تكون الآن في مرحلة التحضير لها، وتخطّط لوضعها على جدول الأعمال في أيّ لحظةٍ قادمة.

لو كان الأمر كذلك فماذا تنتظر دولة الاحتلال حتى الآن؟

فطالما أنّها قالت منذ الساعات الأولى لـمعركة 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، إنها تخوض حرباً وجودية، وإن مصيرها بات معلّقاً بنتائج هذه المعركة، وطالما أن هذه المعركة كانت بدأت بالقتال مع فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ، وباتت هذه المعركة الآن مع جبهة إسناد نشطة ومتواصلة في جنوب لبنان، ومع قوة عسكرية تحسب لها دولة الاحتلال ألف حساب، والتي تتمثّل في قدرات "حزب الله" اللبناني، ومع "أنصار الله" الحوثيين التي أمسكتها، وكذلك "الغرب" كلّه من اليد التي تؤلمها من البحر الأحمر، وطالما أنّ المقاومة العراقية تشارك في هذه المعركة بأشكال ربّما تكون أقرب إلى الرمزية حتى الآن، لكن عينها مفتوحة على الوجود العسكري الأميركي في كل من سورية والعراق.. طالما أنّ الأمور باتت على هذه الدرجة من التهديد الوجودي لدولة الاحتلال، أي على درجة أعلى بكثير من درجة القتال المباشر ضد فصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع، فمن باب أولى أن تكون الدولة العبرية أمام حرب مباشرة، شاملة، مدمّرة ضد هذا "المحور" كلّه، خصوصاً أنها تقول إنها لا تخشى هذه الحرب، بل يمكن أن تكون هي خيارها عند درجة معينة من احتدام حالة القتال في الإقليم، بل تقول إنها ذاهبة إلى النصر فيها.. ماذا تنتظر؟

الجبهة الوحيدة التي ردّت عليها دولة الاحتلال بكل ما تملك من قوة وبطش هي الجبهة الفلسطينية، وذهبت إلى أبعد من كل تصور في الإبادة والإجرام والتدمير، ووصلت إلى ارتكاب مذابح جماعية ضد المدنيين، وتجاوزت ممارسات كلّ الفاشيات السابقة في الإمعان الممنهج من قتل الأطفال والنساء، وفي التعذيب الجماعي للسكان من خلال "مسرحيّات" إجبارهم على النزوح إلى مناطق "آمنة" بهدف تجميعهم، واصطيادهم هناك، إضافة إلى التنكيل بالأسرى بصورة مروّعة، وقتل العشرات منهم تحت التعذيب.

وقد يعتقد بعض أصحاب "النوايا الطيّبة" أنّ هذه الجرائم قد حدثت بسبب "طوفان الأقصى" العام المنصرم، إلّا أنّ هؤلاء أصحاب "النوايا الطيبة" ينسون، ولا أظنهم يتناسون أن دولة الاحتلال، وعلى مدار أكثر من سبعة عشر عاماً من الحصار كانت قد قتلت الآلاف من المدنيين الفلسطينيين في حروب خمس متتالية، إضافة إلى آلاف وآلاف آخرين تم قتلهم بوساطة الحصار على القطاع الذي كان قد حوّله إلى أكبر سجنٍ في تاريخ العالم الحديث.

ويعتقد نفس هؤلاء من ذوي "النوايا الطيبة" أن "طوفان الأقصى" هو السبب المباشر الذي وفّر لدولة الاحتلال المبرّرات والحجج والذرائع التي "مكّنته" من الذهاب بعيداً في حرب الإبادة والتجويع، وهي التي سمحت له بالحصول على الغطاء الذي كان ينتظره، ويبحث عنه لشنّ هذه الحرب الهمجية والإجرامية على سكان القطاع.

أقصد أنّهم يعتقدون أنّ دولة الاحتلال وجدت "شرعية" وربما مشروعية في هجوم "طوفان الأقصى" لكي تقوم بكلّ ما قامت به، وبكل ما أقدمت عليه من فظائع وأهوال ضد شعبنا في القطاع.

سيكون هؤلاء "الطيّبون" على حقّ إذا استطاعوا أن يقنعونا بالمبرّرات والحجج والذرائع التي جعلت دولة الاحتلال الإسرائيلي تقدم على حروب خمس مدمّرة ضد القطاع، وعلى عشرات المجازر التي ارتكبت فيه قبل أن يقنعونا بمئات المجازر التي ارتكبتها ضد شعبنا منذ أكثر من 76 عاماً، أو المجازر التي ارتكبتها في "قانا" اللبنانية مثلاً، أو في "بحر البقر" المصرية، أو مئات المجازر التي ارتكبتها في غزّة أثناء العدوان الثلاثي، ومحو أكثر من 400 قرية وبلدة فلسطينية عن الخارطة بالكامل أثناء وبُعيد النكبة .

الحقيقة أنّ دولة الاحتلال تنتظر "الفرصة" وليس السبب، والفارق بين الأمرين كبير، وهو الذي يحدد الفواصل بين أصحاب "النوايا الطيّبة" وبين أصحاب النهج الذي يتعلق أصلاً، ولا يعتمد في معاييره على أيّ نوعٍ من أنواع النوايا.

ألم تقم دولة الاحتلال بحرب كبيرة ــ اجتياح لبنان 1982 ــ ضد المقاومة الفلسطينية، وجهّزت جيشاً "عرمرماً"، "بسبب" محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في العاصمة البريطانية؟

هل كان يستحقّ الأمر حرباً بهذه القوة والإجرام، وهذه الضخامة بسبب تلك المحاولة؟

ألم تقم، أيضاً، بحرب العام 2006 ردّاً على عملية عسكرية انتهت بأسر جنديين أو ثلاثة جنود قام بها "حزب الله"، وكان من نتيجتها أن هُزمت دولة الاحتلال فيها، أو فشلت في تحقيق أيّ نتائج منها؟

وبالمقابل، ألا يقوم "حزب الله"، ومن معه في الساحة اللبنانية بضرب دولة الاحتلال وعلى مدار الساعة، ويدمّر مواقعها العسكرية، ومرابض مدفعيتها، ومراكز تجسّسها وراداراتها؟ ليس مرّة واحدة أو عدة مرّات، وإنّما على مدار أكثر من 10 شهور متواصلة؟ ألاّ تتجوّل طائراته المسيّرة وتحلّق كلّ يوم؟ فلماذا "تنضبط" دولة الاحتلال إلى هذه الدرجة، وتردّ على النيران بالمثل فقط، أو تزيد عليها في مسألة الاغتيالات؟

ومسألة الاغتيالات معروفة أسبابها، فهي من جهة حالة تتفوّق بها، وهي بالتالي قادرة عليها، ومن جهة أخرى تعرف أنّ الردّ عليها من هذه الاغتيالات لن ينقل الحرب إلى مرحلة الحرب الشاملة.

ويبقى السؤال: لماذا هذا الانضباط؟

هل بسبب عدم توفّر سبب أو حجّة أو ذريعة؟

طبعاً السبب الحقيقي أنّ الدولة العبرية تحاول بكلّ السبل أن تتجنّب الحرب الشاملة، لأنّها أكثر ما تخاف منها، وأكثر ما تحاول إبعاد شبحها عنها. في غزّة ليس لديها مخاوف من حرب شاملة كهذه، وليس لدى فصائل المقاومة في غزّة ما تردعها سوى استنزاف قوّاتها، وهي تقوم بذلك، لكن ذلك لا يمنع دولة الاحتلال من الاستمرار بالمذابح، ومواصلة الحرب الإجرامية ضد الأهل في القطاع.

وماذا فعلت عندما هجمت عليها إيران في نيسان الماضي؟

ألم تنضبط في حدود ردود باهتة لم يسمع بها أحد؟

ألم يشكّل "الوعد الصادق" الذي اشترك في التصدّي له "الغرب" كلّه سبباً لحربٍ شاملة تقول دولة الاحتلال إنها لا تخشاها، وربما تخطّط لها وتسعى إليها؟

الحقيقة أنّ لدى دولة الاحتلال ألف سبب وسبب لشنّ هذه الحرب الشاملة من زاوية وضعها، ومن زاوية الإخفاق والفشل الذي تعيشه، ومن زاوية الأزمات التي تعصف بها من كلّ جانب وعلى كلّ صعيد، ولكنها فاقدة للفرصة، وللقدرة، وللإمكانية على القيام بها، وليست فاقدة للأسباب والمبرّرات والحُجج التي "تساعدها" على القيام بها.

ثم أخيراً، ماذا يعني أنّ دولة الاحتلال تقف على رِجل واحدة ومنذ أكثر من عشرة أيام متواصلة، وهي في حالة شلل كبير بانتظار ردود إيران و"محور المقاومة"، وخصوصاً بانتظار ردود "حزب الله" على الاغتيالات التي قامت بها في كل من طهران وبيروت؟

والذي أراه، وربما على عكس ما ينشغل به المراقبون والمحلّلون والمتابعون منذ تلك الاغتيالات وحتى الآن أن "محور المقاومة" يتعمّد التأخير ليُبقي دولة الاحتلال واقفة على رِجل واحدة، لأنّ طول الوقوف، واستمرار حالة الشلل هو هدف بحدّ ذاته، وهو شيئاً فشيئاً ينهش من صورة الردع الإسرائيلي في كلّ دقيقة، وهي الصورة التي تعمّدت أن تثبتها في الإقليم باعتبارها صاحبة اليد الطولى، وصاحبة القدرة الكلّية على الفعل المؤثّر.

أقصد أنّ الأمر ليس مجرّد عقوبة، وإنما استطفاء الوهج الذي نتج عن الاغتيالات.

فدولة الاحتلال لا تستطيع مغادرة حالة الشلل، وهي لا تستطيع المبادرة إلى الحرب الاستباقية، لأنّها تعرف النتائج.

هذه الحالة من الشلل، والعجز عن القدرة على التخلّص منه هو بحدّ ذاته "إذلال" سياسي من نوع خاص لم تعتد عليه، وليس أمامها سوى أن تتجرّع مرارته إلى أن يأتيها "الفرج"، وتبدأ الردود بالانهيال على رأسها!

لا يوجد لديها ردع ولا "بطّيخ"، ولا حرب شاملة، ولا غير شاملة، ولا يوجد غير حالة عجز تحاول التعويض عنها باغتيال هنا، وآخر هناك، وبوجود "الغرب" كلّه لكي يهدّئ من رَوْعِها الذي هو الهلع الجماعي بأوضح تجلّياته.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد