قال: يا رب أبعد عنا هذه الكارثة، لأن إسقاط صندوق واحد في المكان سوف يؤدي لقتل العشرات بسبب الجوع والطمع في الحصول على ثروة سريعة، فقد استشهد برصاص المحتلين منذ أقل من أسبوع أكثر من مائتي جائع بسبب صرخات بطون أطفالهم!
أدرك الأب، عزيز المهجَّر من شمال غزة إلى مدرسة الإيواء في دير البلح وهو في الحادية والستين من العمر أن الطائرة التي تحلّق في الجو على ارتفاع منخفض المكتوب على سطحها الخارجي «سلاح الجو الأميركي» لا يمكن أن تلقي حمولتها من المواد الغذائية إلا لتصنع كارثة بين الجوعى، فهي الطائرة نفسها التي حملت القنابل التي دمرت بيوت أبنائه ومحل الصرافة، ومحلات بيع الملابس، ومزرعته العامرة، تمتم يقول: إن الصناديق الغذائية الهابطة من الطائرة عبوات ناسفة متفجرة مغلفة بغلاف إنساني زائف بادعاء الرحمة والإنسانية!
أحس بالرعب مما دفعه لتفقد أبنائه الأربعة بعد أن أصبح منذ شهرين عائلهم الوحيد، استشهدت زوجته تحت ركام بيته وأصبح هو المسؤول الأول عن الأسرة، لا يوجد في خيمة إيوائه في ساحة المدرسة المكتظة سوى اثنين من أبنائه فقط، كيف يمكنه أن ينادي الاثنين الآخرين، تحسس هاتفه، لكنه تذكر أن شبكات الاتصالات لم تعد متاحة منذ ثلاثة أيام لعدم وجود إرسال، أعاد هاتفه إلى جيبه السفلي جثة هامدة، خاف أن يعهد لابنيه الاثنين البحث عن أخويهما، لأنه خشي أنهما سيصابان بهلع الجوع ويتجهان إلى موقع الصناديق المعدة للإسقاط، حينئذ سيفقد أربعة من أبنائه، حاول أن يُبعد هذه الصورة المشؤومة عن فكره، أغلق الأب بجسده باب خيمة النايلون الممزقة، كان يرى على وجه ابنيه رغبة في الانفلات من الأب، لذلك قال لهما: لا تخرجا أبداً من باب الخيمة، ولكنه سمح لهما أن يقفا إلى جواره وهو يقف في الوسط يضع يديه على كتفيهما على باب الخيمة ليشاهدا جموع الجائعين وهم يجرون في انتظار تحديد مكان سقوط الصناديق!
اتجهت جموع المحملقين نحو الطائرة وهي تتجه من الشرق نحو الغرب، لم يأبه كثيرون بسقوطهم على الأرض بسبب التدافع، المهم ألا يفقدوا اتجاه سقوط صناديق الغذاء، سقطت الصناديق كلها وسط البحر، كانت بعيدة جدا عن الشاطئ، غير أن عيون الجائعين قرَّبت مسافة الصناديق، جعلتهم يشعرون أن الصناديق قريبة جدا من الشاطئ!
انهال عدد كبير من المحملقين من الجرف المرتفع عن أمواج البحر نحو الشاطئ، كانت الصناديق العائمة كالسراب وسط البحر، غير أن كثيرين ممن كانوا يحسون بالجوع شعروا أنها أصبحت ملكاً لهم، ألقوا بأنفسهم في البحر بملابسهم، وآخرون ألقوا بعض ملابسهم على الشاطئ غير آبهين بالرياح الباردة، وشرعوا في السباحة داخل البحر!
جال الأب ببصره يملؤه الرعب من أن يكون ابنٌ من أبنائه قد دخل البحر لأنهما لا يجيدان السباحة، كان يعلم أن ابنيه الغائبين اكتسبا من معسكر اللجوء النشوز والتمرد على أوامره، فقد كان أبناؤه قبل هذه الكارثة مُطيعين يملكون أرقى محلات بيع الملابس، كانوا منعمين هانئين يسكنون في أرقى شوارع غزة!
اثنا عشر ألف مُهجَّر يتجمعون في حظائر مدرسة اللاجئين المطلة على بحر دير البلح جنوب مدينة غزة، يُطاردون بعيونهم صناديق الغذاء الهابطة من طائرة النقل الضخمة الحائمة في المكان، كثيرون كانوا يُرددون: الجوع أفضل من أن نقتتل على صناديق الغذاء، الأجساد تلتصق بالأجساد، غادر الأطفال خيام الآباء، لم يعد الآباء قادرين على تحديد أمكنة أبنائهم، العيون والبطون الجائعة تستحلب ريقهم، هم يحلمون بأن يظفروا بجزء مما تحتويه صناديق الطائرة المتوقعة الهبوط بمظلات النايلون الرقيق، كلهم لا يعلمون أين سترمي طائرة النقل صناديق الخشب المملوءة بمعلبات الطعام وقطع البسكويت، كانوا ينظرون إلى الطائرة نفسها وإلى اتجاهها نحو الغرب، وهم يصطدمون ببعضهم بدون أن يشعروا لأن إحساسهم انتقل من الأجساد إلى البصر، بعضهم يحلمون بوجبة من معلبات الطعام المحفوظة ومن البسكويت المحشو بالعجوة، وبعضهم يحلم بالثروة حين يظفر بأكياس السكر والملح وعلب الخميرة وعبوات التمر والزيت وهي الأغلى ليبيعوها لمن يملكون بقايا النقود!
بسرعة البرق دخلت سفن الصيادين الصغيرة إلى البحر، سمع الوالد إطلاق الرصاص من مسلحين على متن هذه السفن، كانوا يهددون الآخرين بصوتٍ عالٍ نقلته رياح البحر إلى آذان المشاهدين: «كل من يأخذ صندوقاً غذائياً عليه أن يسلمه لراكبي السفن المسلحين، وإلا فإنه سيتعرض للقتل»! زخات من الرصاص أطلقها المسلحون في الهواء، أعادت زخات الرصاص كثيرين من العائمين الجائعين إلى الشاطئ يملؤهم اليأس، استولى المسلحون على معظم الصناديق، صناديق كثيرة غاصت حمولتها في الماء!
كانت تعليقات المشاهدين عن بعد تُجيب عن استغراب الأب عزيز، قال أحدهم: «إن تجار الحروب المأجورين هم أنفسهم الذين استولوا على الصناديق، هم وحدهم القادرون على ذلك»!
تساءل آخر: «مَن يجرؤ على منافستهم؟ فهم يملكون النفوذ القبلي والحزبي والسلاح».
طغت سعادة عزيز عندما عاد ابناه في المساء على صرخة الجوع الواضحة على وجهه ووجوه أبنائه، غفا في ساعات الصباح الأولى، ولكنه لم يتمكن من الإجابة عن سر سقوط صناديق الغذاء في البحر من أحدث الطائرات المبرمجة إلكترونياً، وكذلك من سرعة إدخال سفن الصيد الصغيرة في البحر، وكأن المسلحين كانوا يعلمون مسبقاً بالموعد والمكان!
في صباح اليوم التالي ذهب عزيز ليشتري علبة من الصلصة، وكيلو من الأرز، وعلبتين من التمر من بائعي محتويات صناديق الغذاء، طلب البائع من الجائع سبعة أضعاف الثمن المعتاد، حين ساومهم على تخفيض سعر المشتريات، استغرب من أن البائع يُقسم قسماً بالله العظيم أن ربحه من البيع قليلٌ جداً، لأنه اشترى هذه البضاعة المنهوبة ليس من الناهب الأول بل من السارق الثاني! قال أحد الماشين بصوتٍ ساخر مرتفع: هم أنفسهم، محتكري صناديق الغذاء، يدّعون أنهم اشتروها، هم اليوم يبيعونها بأسعار باهظة في السوق!
(قصة حدثت في الشهر الخامس من حرب الإبادة في غزة)
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية