طالبت البروفسور، ناعومي كلاين، في مقالها في صحيفة الغارديان يوم 23-4-2024، وهي أستاذة مركز العدالة البيئية في جامعة برتش كولومبيا الكندية، طالبت معتنقي الحركة الصهيونية أن يتنصلوا منها ويتركوها!
مما جاء في مقالها: «سوقت إسرائيل زيفاً الحركة الصهيونية بأنها حركة تحرر يهودية، والحقيقة غير ذلك فقد حولت الحركة الصهيونية مصطلح (الأرض الموعودة) إلى دولة عسكرية مقدسة حينما أجازت تدمير الجامعات والمدارس والأرشيفات والإعلام في غزة ! اليهودية الصادقة لا يمكن أن تتعايش مع القوة العسكرية، ويجب ألا تكون عرقية»!
أعادتني أقوال هذه البروفسور إلى بداية الألفية الثالثة، العام 2000 حين برز تيار المؤرخين الجدد عندما فُتح الأرشيف الإسرائيلي العسكري والسياسي، وقد ندم على فتحه مخططو إسرائيل ودهاقنة سياسييها، وقاموا بإغلاق صفحاته فوراً لأنه سبب كارثة في إسرائيل، اسمها بروز تيار المؤرخين الجدد أو تيار (ما بعد الصهيونية) بين المفكرين والكتاب والمثقفين الإسرائيليين اليساريين، لأنهم اكتشفوا إسرائيل وعصاباتها العنصرية من وثائقها، وليس ما سوقته أسطورتها الإعلامية المضللة!
هذا الأرشيف امتلأت صفحاته بالجرائم والعنصريات، ما أدى إلى أن يثور كتابٌ وأدباءٌ إسرائيليون كثيرون على المعتقد المقدس بأن الحركة الصهيونية هي حركة تحرر يهودية قومية!
فضحت صفحاتُ الأرشيف هذه الدعاية المغرضة، لذلك تبرَّأ أدباء ومفكرون كثيرون من هذه البروباغاندا على رأسهم البروفسور، إيلان بابيه، وشلومو ساند، وتوم سيغف، وسمحا فلابان، وآفي شلايم، وغيرهم!
ساد الاعتقاد في بداية الألفية بين كثير من المفكرين والكتاب أن إسرائيل دولة مزيفة لا يمكن العيش فيها، وصل الأمر إلى الدعوة بالرحيل منها، وقد أبرزتُ ذلك في كتابي «الصراع في إسرائيل».
دعت البروفسور، ميخال أورين المفكرين واليساريين لمغادرة إسرائيل نهائياً وتأسيس وطن جديد لهم خارج إسرائيل!
ومن أبرز أساطير البروباغاندا الصهيونية التي فككها المؤرخون الجدد، أسطورة (أرض بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض) وقد أبرز المؤرخون الجدد أن فلسطين كانت زاخرة بالحياة وليست صحراء قاحلة وأن شعب فلسطين كان يعيش في حضارة مزدهرة، كذلك رفض المؤرخون الجدد أن العرب هم دائماً الذين يرفضون السلام، جاء في كتاب، «الستار الحديدي» للمؤرخ الجديد آفي شلايم؛ أن بن غوريون هو الذي رفض المفاوضات مع الرئيس السوري حسني الزعيم والملك عبد الله وحتى مع الرئيس عبد الناصر، وأثبت الأرشيف أيضاً أن الفلسطينيين لم يَرحلوا بمحض إرادتهم من وطنهم بسبب دعوة الجيوش العربية لهم بإخلاء بيوتهم لتتمكن هذه الجيوش من محاربة إسرائيل، وأن الحقيقة هي أن العصابات الصهيونية ارتكبت المجازر لترحيلهم، فهم لم يرحلوا برغبتهم، بل رُحِّلوا من أرضهم قسراً بالمجازر والمذابح!
اكتشف المؤرخون الجدد أن إسرائيل ليست جمهورية أفلاطون المثالية، وأنها ذات سلاح طاهر تحافظ على الأخلاق، بل هي عنصرية قامت بارتكاب المجازر، مثلما نشر الصحافي دان ياهف في كتابه (طهارة السلاح) وثَّق فيه عشرات المجازر ليس ضد الفلسطينيين فقط، بل رصد مطاردة واغتيال الإسرائيليين المعارضين!
لم تترك إسرائيل هذا التيار ينمو ويزدهر لأنه يقوض بناء إسرائيل، لذلك عمدت إلى تخريب هذا التيار وإقصائه عن مصدر التأثير والقرار، فاستأجرت الباحثين والمؤرخين المرتزقة ليطاردوا المؤرخين الجدد الواعين ممن اكتشفوا الحقيقة، فقد حاصروا أول من كتب عن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وهو بني موريس وهو أول من كشف في كتابه عن سياسة تهجير الفلسطينيين قسراً وإرهاباً في كتابه،» ولادة مشكلة اللاجئين» الصادر العام 1988 وكان يعمل صحافياً في «الجروسالم بوست»، فطُرد من وظيفته ما دفعه إلى التراجع والتبرؤ من أفكاره السابقة فكتب كتاباً جديداً (تصحيح خطأ) تنصل فيه من آرائه السابقة حتى يحصل على وظيفة بروفسور لمساق التاريخ في جامعة بن غوريون!
كذلك تصدى المكارثي، أفرايم كارش لتيار المؤرخين الجدد واتهمهم بأنهم عاقون ولا ساميون وكارهو يهوديتهم، فهم فيروس!
ولم يكتفِ المكارثيون بذلك بل أرغموا البروفسور إيلان بابيه على أن يهاجر من إسرائيل إلى الخارج لأنه تبنى رسالة ماجستير للباحث تيودور كاتس «مجزرة الطنطورة» هذه المجزرة ارتكبها جيش إسرائيل العام 1948 وكانت هذه المجزرة على غرار مجزرة دير ياسين!
لم يكتفِ المطبخ الاستخباري بالتنديد بالرسالة بل شكَّلوا لجنة من الأساتذة المكارثيين لإعادة النظر فيها وقدموا عليها طعونات أكاديمية ملفقة عديدة ثم سحبوها من أرشيف جامعة حيفا!
ولم يكتفوا بمطاردة المؤرخين الجدد وإقصائهم من وظائفهم وإرغامهم على ترك إسرائيل، بل عقدوا المؤتمرات والندوات في إسرائيل وخارج إسرائيل سخروا كل تلك الندوات للتنديد بالمؤرخين الجدد!
يجب ألا ننسى أن أحد أبرز المؤرخين الجدد وهو، توم سيغف أشار إلى أن الفلسطينيين أسهموا أيضاً في القضاء على هذا التيار! ففي مقال له في صحيفة «معاريف» يوم 15-8-2000م قال: «للأسف يدفعنا الفلسطينيون دائماً إلى أن نتوحد توحداً قبلياً، وأن نعود مرغمين إلى الحركة الصهيونية».
وهو يشير إلى أن الانتفاضة الفلسطينية والعمليات الفدائية وإطلاق الصواريخ من وجهة نظر كثيرين من اليساريين أسهمت بشكل مباشر في القضاء على تيار المؤرخين الجدد، وأنجحت الخطة الاستخبارية الإسرائيلية ضد هؤلاء المؤرخين!
فهل يتمكن الإسرائيليون من القضاء على ثورة الخيام الطلابية العالمية الجارية احتجاجاً على جرائم الإبادة والتطهير العرقي في غزة باستخدام أسلوب جديد يهدف لإنهاء ثورة خيام الجامعات الجارية اليوم، يُحاكي طريقتهم السابقة مع المؤرخين الجدد؟!
مع العلم أننا نحن - الفلسطينيين - اعتدنا ألا نتابع قضايا الفكر والسياسة، وأن نقوم فقط برد الفعل العكسي السريع المحسوب بالساعات بلا خطط مستقبلية، وأن نظل بعيدين عن التأثير في فسيفساء المجتمع الإسرائيلي!
أدعو الله ألا يكون سببُ إنهاء ثورة مخيمات الطلاب العالمية هذه المرة سبباً يُنسب للفلسطينيين!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية