يتغيّر العالم على مستوى الرأي العام، وعلى مستوى مواقف الدول إزاء مجريات وتداعيات ومآلات الحرب التي تشنّها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية و القدس وقطاع غزة ، ولا يتغيّر الموقف الإسرائيلي.
صحيح أنّ التبدُّل في مواقف الدول، خاصّة "الغربية" التي انحازت منذ البداية إلى جانب دولة الاحتلال، ومعظمها انخرطت في الحرب بطريقةٍ أو أخرى.
صحيح أنّ هذا التبدُّل، لا يزال نظريّاً، تصعب المراهنة عليه، ولم يتحوّل بعد إلى ضغطٍ فعّال، وإجراءات عقابية، لإرغام قادة الحرب الإسرائيليين على وقف حربهم على الشعب الفلسطيني.
لكن هذا التبدُّل ينطوي على أهمية في التأثير على الداخل الإسرائيلي، ونحو تعميق وترسيخ التحوُّلات الجارية على مستوى الرأي العام في تلك الدول في غير صالح إسرائيل.
يصرّ بنيامين نتنياهو وفريقه على التمسّك برفض تداول مسألة ما بعد الحرب، أو إمكانية القبول بالتفاوض على أساس "رؤية الدولتين"، ويصرّ، أيضاً، على رفض الاستجابة لمساعي الوسطاء بشأن عملية تبادل، وهدنة لأسابيع ويشحذ عقله فقط في كيفية التملّص من مثل هذه الصفقة.
يعتقد نتنياهو أنّ التوقّف عن متابعة نقل الحرب إلى رفح، هزيمة لا يمكن القبول بها، وأنّه سيمضي قُدُماً بالرغم من كلّ التحذيرات التي تصدر عن معظم دول العالم بمن في ذلك حلفاؤه "الغربيون".
الموقف بالنسبة لملفّ نقل الحرب إلى رفح، ليس موقفاً تفاوضياً فقط وإنّما يندرج في سياق رؤية نتنياهو لمتابعة وتوسيع الحرب.
نتنياهو يدرك أنّ كلّ ما يصدر من مواقف رافضة لنقل الحرب إلى رفح، لا تخرج عن التحذير والتعبير عن القلق، والخشية من حجم ونوع الكارثة التي ستحلّ بالمدنيين.
الإدارة الأميركية لم تسحب بعد دعمها لحرب نتنياهو بما في ذلك حملته المتوقّعة على رفح، ولكنّها تطلب إبداء حساسية إزاء أعداد المدنيين الذين سيتعرّضون للقتل، وذلك من باب تخفيف الضرر الذي يلحق بإسرائيل التي تواجه اتهامات بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم بحق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
الكلّ في هذا العالم يعرف يقيناً أنّ الولايات المتحدة هي التي تملك كلّ القدرة على إرغام إسرائيل على وقف الحرب، لكنها مضطرّة لإضفاء مجاملات كاذبة على خطابها السياسي مراعاة لحلفائها العرب.
أكثر ما يغيظ المرء في تصريحات المسؤولين الدوليين، وحتى المسؤولين العرب، ومعظم مسؤولي المؤسسات الحقوقية والإنسانية الدولية، أنّ هذه التصريحات تنطوي على توصيفات صحيحة، وتحذيرات مهمّة، وبعضها ينتهي إلى مطالبات لإسرائيل بالتزام قواعد الحرب والقوانين الدولية، ولكن كلّ ذلك يفتقر إلى الممارسة العملية والتأثير الفعّال.
هي ليست المرّة الأولى في تاريخ الصراع، وجولات الحروب والعدوان، الذي تصرّح فيه علناً، وتمارس على أساس أنّها لا تعترف ولا تلتزم لا بقرارات الأمم المتحدة، ولا بالقوانين الدولية أيّاً كانت.
وفي الحقيقة يثبت سجّل مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة، أنّ الولايات المتحدة كانت دائماً تقف لحماية إسرائيل حتى من مجرّد انتقاد، ناهيكم عن أيّ احتمالات لإدانتها، أو اتخاذ عقوبات بحقّها.
الجزائر قدمت مشروع قرار في مجلس الأمن، هو المحاولة الرابعة أو الخامسة، فيأتي ردّ المندوبة الأميركية، أنّ هذا لن يمرّ وأنّه سيؤدّي إلى تعطيل مساعي التهدئة التي تحاول مع وسطاء آخرين التوصّل إليها.
من غير المتوقّع أن تتبدّل مواقف الإدارة الأميركية، خاصة أنّ الوقت يعمل لصالح نتنياهو، إذ يبدو أنّ جو بايدن بدأ يفقد الثقة بإمكانية خوض المنافسة نحو البيت الأبيض، وحيث لا يمكّنه نتنياهو من الحصول على مكاسب في المنطقة تعزّز شعبيّته.
كيفما جرى تدوير الزوايا، فإنّ الأحداث تشير إلى أنّ الحرب مستمرة وطويلة وتكاد تدخل مرحلة الحرب المفتوحة، على بقاء إسرائيل، أو تغوّلها على حقوق الشعب الفلسطيني ووجوده.
يبدو أنّ نتنياهو وفريقه، ومن دون معارضة حقيقية نظرية أو عملية من قبل "المعارضة" في إسرائيل، يمارس السياسة والحرب على اعتبار أنّ قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة العام 1967، يشكّل بداية هزيمة والإطاحة بالمشروع الصهيوني.
المشروع الصهيوني تمّ تأسيسه على أسس استعمارية من قبل الدول التي تبنّت إقامته لقتل كلّ محاولة لنهوض مشروع قومي عربي، ومن أجل تعميق الهيمنة والسيطرة الاستعمارية على مقدّرات وثروات المنطقة.
لكن حاملي المشروع من الصهاينة، وظّفوا الخطاب الديني، والتاريخي لتبرير مشروعهم وتجميع اليهود في فلسطين، انطلاقاً من مزاعم بأنّ تاريخ إسرائيل نشأ في "يهودا والسامرة"، وليس في الساحل أو الوسط الفلسطيني.
واعتمد، أيضاً، على مزاعم وجود الهيكل تحت المسجد الأقصى، أي أنّ كلّ المشروع انبنى على مزاعم تتعلّق بالضفة والقدس، التي اعتبرتها الأمم المتحدة، وأمم العالم أنّها أرض محتلّة لا يجوز لإسرائيل التصرّف بها وتغيير معالمها الديمغرافية والجيوسياسية والقانونية.
لذلك يعتقد نتنياهو وقيادات الأحزاب السياسية المتطرّفة وغير المتطرّفة في دولة الاحتلال، أنّ إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقدس هو نسفٌ لكلّ المزاعم التي قام عليها المشروع الصهيوني، الذي لا يبقى منه إلّا البعد الاستعماري الخاص بالدول التي أنشأت المشروع ودعمته حتى اليوم.
لذلك على الجميع أن يصدّق ما يقوله نتنياهو بشأن رفضه المطلق لإقامة دولة فلسطينية، وأنّه سيخوض الحرب حتى النهاية، لتحقيق الهيمنة الكلية على الأرض التي تقع بين النهر والبحر، تلك الخارطة التي رفعها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول المنصرم.
حتى أنّ نتنياهو يرفض القبول بفكرة دولة في غزّة، كما يعتقد بعض المشكّكين في نوايا حركة حماس ، لأنّه يعتقد أنّ مثل هذه الدولة أو الكيانية ستظلّ تحمل مقوّمات الهوية الوطنية الفلسطينية.
قد تتخلّى بعض الدول الاستعمارية "الغربية"، عن دعم هذا البعد في المشروع الصهيوني، سواء تحت ضغط التحوّلات الدولية، أو تحت ضغط مغريات التعامل المباشر مع الدول "العربية" انطلاقاً من الحرص على مصالحها، ولكن إسرائيل ستواصل حروبها، من أجل روايتها ومزاعمها التوراتية والتاريخية.
إذا لم تكن حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحقّ قطاع غزّة وأهله، كافيةً لإقناع العرب خصوصاً والفلسطينيين في الأساس، فليتبصّروا فيما يجري في الضفة الغربية والقدس، وما تتعرّض له السلطة الوطنية الفلسطينية من محاولات تدمير لقدراتها ودورها وحتى وجودها.
والخلاصة أنّ قادة الحرب الإسرائيليين يدفعون نحو توسيع دائرة الحرب في الإقليم بعكس رغبة حلفائها الذين سيجدون أنفسهم متورّطين من حيث لا يريدون، وبما يُلحق الضرر بمصالحهم.. إلّا إذا؟!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية