كيف تمكن الروائي طلال أبو شاويش من تحويل الواقع إلى خيال يغرق في واقعيته حد البكاء وحد النشوة معاً في مسار تاريخ طويل لشعب ما زال يعيش اللعبة ذاتها؟، وكأن التاريخ تسمر في هذه البقعة من الأرض وكتب عليها أن تواصل هذا المسلسل الدامي والحزين بلا توقف لحياة تشبه الروايات أبطالها ملاحقون أو في السجن أو ينتهون على عتبات المعارك.
رواية «الهليون» وهي تضاف للأدب الفلسطيني غير القادر على الإفلات من واقعه التحرري كان واضحا أن كاتبها أعد نفسه جيدا حسبما فهمت منه، كمن كان يتحضر لمهمة ثورية غاية في الدقة من معاينة للمكان الذي دارت فيه أحداث الرواية واستجواب شهود العيان وقراءة التاريخ جيدا ورسم شخصياته لتطابق واقعا فلسطينيا لا يحتاج الكثير ليتحول إلى نص لكثافة أحداثه ولاستثنائيتها حد الأسطرة أحيانا.
الرواية تسلط جانبا من جوانب الصراع الأمني بين دولة إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حين تمكنت أجهزة الأمن الإسرائيلية من زراعة جاسوس يهودي بين الفلسطينيين. وتدور أحداث الرواية في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين وهو مخيم أنشأته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين في الجنوب الغربي لمدينة غزة .
عاش هذا الجاسوس الذي لقبه أهل المخيم بـ»الهليون» نسبة إلى نبتة عشبية كان يأكلها الناس في مدينة يافا، فقد ادعى الجاسوس الإسرائيلي أن أصوله من تلك المدينة الساحلية بعد أن رحل إثر النكبة هو وعائلته إلى لبنان لتغرق عائلته في البحر ثم يحمله البحر من جديد إلى غزة حيث مخيم النصيرات، قبل أن يستقر في الشاطئ الذي كان يعد بؤرة المقاومة التي يقودها محمد الأسود الذي لقب بـ»جيفارا غزة» نسبة إلى تشي جيفارا.
أقام سكان المخيم صلاة الميت في الجامع الأبيض على هذا الرجل البائس المقطوع من شجرة بعد أن وجدوه ميتا في غرفته البائسة، ومن ثم دفنوا جثمان الهليون في مقبرة الشيخ رضوان، وفي نفس الليلة، جاءت طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية إلى المقبرة ليظن السكان أنهم يقومون بسرقة جثامين الأموات. ولم يفكر أحد في الرواية إلا بعد أن عرضت قناة إسرائيلية تقريرا عن ضابط إسرائيلي كبير اسمه «ديفيد هيلين» هاجر من فرنسا والتحق بالعمل بأجهزة الأمن ووقع عليه الاختبار لزرعه في غزة، ولولا ذلك التقرير لما ربط أحد بين الهليون وديفيد هيلين ليحل شيفرة تلك الطائرات ليلة موته التي كانت قد أعادت حفر القبر وأخذ الجثة لتقيم له جنازة عسكرية في إسرائيل تليق بضابط كبير.
عاش الهليون قريبا من منطقة سوق الشاطئ في غرفة حقيرة وامتهن مهنة وضيعة بإخلاء الحفر الامتصاصية للحمامات البدائية يدويا، فكان يعوم في مخلفاتها ويتقاضى مقابل ذلك أجرا بسيطا جدا، كان يبدو كالمجذوم ومحل شفقة من سكان المخيم. حدثني والد زوجتي عن الهليون واعتقدت أنه يبالغ فالأمر عصي على التصديق في البداية، لكن الروائي أجرى كل التحقيقات اللازمة قبل أن يبدأ مؤكدا التفاصيل.
بدأ أبو شاويش النص مستدعيا الضابط «يهوشع بن دافيد» الذي كان قد عمل سابقا كمحقق وحشي في قطاع غزة وقتل فلسطينيا في التحقيق وهوى ابن الهليون ليبحث عن سر موت والده هل مات طبيعيا أم قُتل؟ يستغل يهوشع نقل «منصور» وأظن أن طلال أبو شاويش استعار الاسم ليجسد شخصية المناضل التاريخي «منصور ثابت»، كان منصور في سيارة الإسعاف بعد تدخل جهات حقوقية للسماح بنقله للضفة لتلقي علاج السرطان، فيدخل يهوشع سيارة الإسعاف مهددا منصور إذا لم يكشف حقيقة موت والده لن يسمح له بالمرور، لكن منصور الذي كان يُعرف كأسطورة في التحقيق يتعامل باحتقار مع الضابط بل يقدم إجابة محيرة تجعله يزداد قهرا قبل أن يأمر بعودة منصور لغزة ليموت فيها.
صحيح أن الرواية هي ابنة واقع سريالي لكن الكاتب شحنها بالكثير من الرسائل التي تليق بكاتب تخرج من مدرسة الحركة الوطنية وأحزابها، قدم خداع الأمن الإسرائيلي المجرد من الإنسانية فالمصالح أهم من البشر، كيف تلقي بإنسان بعيدا عن زوجته وأولاده في إسرائيل بتلك الحياة الفقيرة ليعيش في غرفة حقيرة ويمتهن مهنة حقيرة ويموت بعيدا عن أسرته، يعمل في تنظيف الآبار الامتصاصية يدويا وينبغي أن يتصرف كمن فقد عقله كالمجذوم وقليل الكلام وكيف كانت تتم عمليات القتل، وكيف يستغل الاحتلال مرض الغزيين للحصول على المعلومات، مع تقديم الكاتب صورة ناصعة عن مقاومة شعبه تجسدت بأخلاق منصور وأخلاق المجموعة التي عملت معه، الكاتب أعاد المقارنة بشكلها الروائي الشيق.
في ليلة واحدة تشدك الرواية ذات الثلاثمائة صفحة وأنت تسارع في قراءة الصفحات لتعرف أين سيصل الكاتب في الفصول اللاحقة، الرواية تركز على شخصية جاسوس لكنها تلقي الضوء على واقع الفلسطينيين في قطاع غزة في أكثر سنواته صعوبة وتبلور حركته الوطنية، هي رواية تاريخية بامتياز وجديرة بالاحتفاء تؤرخ للفلسطينيين جزءا من مسارهم في هذه المنطقة التي شاء قدرها أن تعيد بناء الحركة الوطنية بعد التشتت.
اللافت أن هناك حالة ثقافية مهمة على صعيد الرواية خرجت من قطاع غزة يجسدها روائيون من أجيال مختلفة مثل عبد الله تايه ومحمد نصار وطلال أبو شاويش ومحمود جودة ويسري الغول وشفيق التلولي وغيرهم، هؤلاء بحاجة لدعم واهتمام أكبر ومساعدتهم على النشر والانتشار لا تجاهلهم كما يحدث فهم يقدمون تاريخنا المطلوب نسيانه وبشكل روائي يحمل حزننا وفرحنا وفخرنا وانتصارنا وانكسارنا .. وصورتنا أمام العالم ... رواية «الهليون» كانت نموذجه الأدبي الحي والرصين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية