إن البحث عن المصالحة عملية مستمرة حتى تحقيقها، التخلي عن هذا السعي يشكل إمعاناً في الانقسام وتعميقاً للخلاف، وتاريخ المصالحة الوطنية يشهد على فترات التقطع الطويلة في عمليات البحث عن الحل لصالح الركض خلف الخلاف وتعميمه وتوسيع قواعده، لذا فإن النقاش المستمر وحده يمكن له أن يخفف من غلواء تبعات الانقسام المرير الذي قاد له انقلاب حزيران.
والقصة ليست في إثبات الحقيقة أو في السعي لتبيان من المخطئ لأن الضحية في كل هذا النقاش هي المصلحة الوطنية، أن تعرف شيئاً واحداً قاله غسان فيما مضى «الوطن أن لا يحدث كل هذا»، أما وقد حدث فإن البحث عن السبب وتراشق الاتهامات لا يفيد لأن الضحية، أي الوطن، ما زالت تنزف ولم يتوقف الألم ولم تنتهِ المأساة. لذلك فإن الانشغال بالبحث عن الحل هو بحد ذاته جزء من الحل وإن السعي وراء التخفيف من وطأة الأمر الواقع هو بحد ذاته نسمة باردة في موجة الحر الشديدة في صحراء الانقسام، كما أن التفكير في سبل الخروج من الأزمة قد يشكل خارطة طريق تتطور مع الوقت تفلح في إيجاد المخرج الحقيقي من التيه.
إن البحث المستمر هو نجاح بحد ذاته في ظل أن التوقف عن السعي والبحث يشكل توريطاً أكثر للواقع وإمعاناً أكثر في الظلام. المؤكد أننا بحاجة لأن نظل نفكر في سبل الخروج من أزمة الانقسام.
يبدو هذا الكلام مهماً ونحن نتأمل مآلات جلسة الحوار الوطني التي دعا إليها الرئيس وحضرتها الفصائل في العلمين والتي اتفق فيها الأطراف على مواصلة الحوار والتباحث من خلال تشكيل لجنة مشتركة من الفصائل تجتمع وتطور مقترحات يتم تقديمها للأمناء العامين من أجل إيجاد حل أو حلول مختلفة.
ربما نظر البعض إلى ما جرى بوصفه تراجعاً عن الاتفاق بين الأطراف وكأن هناك من كان يتوقع أن يتفق الجميع على حل واحد ينتهي بضربة حظ ونصحو فنجد أن الانقسام قد انتهي مرة واحدة وللأبد.
من المؤكد أن من كان يفكر في ذلك إما أنه يجهل حقيقة الانقسام أو أنه يجهل الواقع الفلسطيني. فالانقسام لا يمكن أن يتم حله بجلسة حوار أو مشاورات أو اجتماع.
طبعاً الصواب أن يتم حل الانقسام دون حوار أي من خلال وجود الوازع الوطني الذي يجعل الاستمرار فيه أمراً محرماً وخيانة وطنية. لكن وقد حدث الانقسام واستمر لأكثر من ست عشرة سنة وتعمق مع الوقت فإن حله لن يكون بتوفر النوايا، لأن النوايا هي التي دفعت لحدوث الانقلاب الذي قاد للانقسام.
إننا بأمس الحاجة لفهم أوسع وأشمل لما جرى من أجل أن نتمكن من الوقوف على حقيقة الحل المنشود.
لا أحد يجب أن يتوقع وجود مثل هذا الحل الذي يتحقق بضربة «معلم» وبمجرد وجود النوايا.
إن عشرات جلسات الحوار المتقطعة لم تفضِ إلى حل الانقسام ولم تحقق الوحدة الوطنية وثمة فرق بين الغايتين (إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية) وهذا موضوع آخر لكن المؤكد أننا بحاجة لهما معاً من أجل أن يتم إخراج الواقع الفلسطيني من سطوة الشقاق والعذاب والتراجع الذي عاشته الحالة الوطنية بسبب تلك السنوات العجاف.
لم يكن ثمة نهج ثابت للحوار الوطني. كانت اللقاءات موسمية وتتم من زمن لآخر ومن بلد لثالث ومن عاصمة لجارتها ولم يكن هناك رؤية فلسطينية ثابتة ترى في إنهاء القسام جهداً مستمراً يجب ألا يتوقف وأن مجرد التواصل والعمل على تحقيقه هو أمر في غاية الأهمية . والعمل على تحقيقه يتطلب مواصلة العمل. في السابق كان يتم اللقاء في إحدى العواصم وتبدأ معلقات الثناء والتوقعات الإيجابية في الشيوع ويظن المرء أن الانقسام بات شيئاً من الماضي وتكون جرعة التفاؤل في أعلى معدلاتها ويبتسم الجميع أمام الكاميرا ويتم تبادل التهاني حتى يظن المتابع أن الشعب هو الذي كان وراء الانقسام. ثم في الصباح يتبخر كل شيء قبل أن تشرق الشمس يضيع وهج التفاؤل وتندثر الأمنيات السعيدة، ثم يتلو ذلك شقاق وخلاف وسب وردح يبرع فيه البعض باحتراف طالب الجامعة المجتهد.
فجأة ينقلب المزاج العام ويتعكّر كل شيء ونعود للمربع الأول كأننا لم نقل شيئاً مختلفاً يوم أمس.
كل هذا لأننا كنا نعتقد أن جلسة ليومين يمكن لها أن تنهي كل شيء. بالطبع هذه أسمى الأماني لو تحققت لكنها أثبتت مع الواقع غير واقعيتها.
كنت في المقال السابق في الأسبوع الماضي قد حاججت بأننا بحاجة للبحث في نماذج حل مختلفة بعيدة عن الحل السحري لتشكيل حكومة وفاق أو وحدة وطنية وإدماج فوري للفصائل في المنظمة لأن مثل هذه الحلول تشكل نهاية حقيقية للانقسام لكنها كما قلت ليست الطريق بل النتيجة.
وإذا كانت هذه النتيجة الحتمية لإنهاء الانقسام فإن الإصرار على البدء بها هو الإصرار على عدم التقدم، والأساس أن يتم البحث عن حلول تصلح لأن تخفف من وطأة الانقسام وتذيب الحدود الفاصلة مؤسساتياً والتي بدورها ستقود إلى توحيد المؤسسات وجعل التخلي عن مواقع النفوذ التي نتأت أمراً محتماً.
وهذا لن يحدث بجلسة واحدة بل يتطلب استمرار الحوار والنقاش والاختلاف حتى نصل لقواسم مشتركة.
أن نختلف على الطاولة ونتراشق التهم ربما أفضل من أن نفعل ذلك على شاشات التلفاز. ونحن حين نجلس مع بعضنا بعضاً نستمع وننصت لمواقف الطرف الآخر. وعليه فإن تشكيل لجنة لمواصلة الحوار والتشاور حتى لو استمر عمل اللجنة سنة أو اثنتين يشكل فرصة للتخفيف من حدة الاختلاف وصناعة الأزمات. لأننا في النهاية بنظر أبناء شعبنا وبنظر العالم نتحاور ونبحث عن حل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية