ما زالت قلّة قليلة تفكّر في طرح هذا السؤال، وما زالت أكثرية كبيرة لا ترغب بطرحه، أو هي تتهيّب مثل هذا السؤال، في موقفٍ يعود في أغلب الظنّ إلى «الرُّعب» الذي يكمن في نفوس غالبية، وربّما غالبية كبيرة من الإسرائيليين.
لا ينظر المجتمع الإسرائيلي الذي بات يعيش أعلى درجات القلق على مستقبل الدولة، وإمكانيات العيش فيها والتعايش مع «الآخر» فيها إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، على خلافٍ كبير من نظرتنا لهذه المحكمة نحن كفلسطينيين، سواء في الداخل الفلسطيني، أو تحت الاحتلال أو حتى في «الشتات» إلّا كملاذٍ أخير، وحتى كحصنٍ يحتمي خلفه غالبية من يرون في مسار الإصلاح القضائي خطراً مباشراً على وجودهم، وهم في الواقع، لأسبابٍ أخرى كثيرة يرون في «تصفية» دور هذه المحكمة التاريخ الفعلي لنشوب حرب أهلية لن يعود بالإمكان تفاديها تحت أيّ مسمّى أو لأيّ سببٍ أو حُجّةٍ أو ذريعة.
وحتّى بالمعنى القانوني الضيّق للكلمة، فإنّ تصفية دور «العليا» في إسرائيل سيُنظر إليه في المراجع الديمقراطية، وبالمعايير السائدة في الأنظمة الديمقراطية، بصرف النظر عن الطبيعة الإثنوديمقراطية لنظام الحكم وبناء مؤسّسة الدولة الإسرائيلية.. سينظر إلى هذه التصفية في الأوساط السياسية، والمؤسّسات الديمقراطية العالمية، كتدشين لمرحلة من الدكتاتورية، وبداية لانحدارٍ شامل في بُنية الدولة الإسرائيلية، وسيصبح بإمكان مئات المؤسّسات الديمقراطية في العالم، بما فيها البرلمانات، ومؤسّسات الحكم، ومنظمات المجتمع المدني، على الصعيد الدولي أن تعيد النظر في علاقتها بإسرائيل، وأن تخضع هذه العلاقات لمقدار ما يتنكّر الحكم في إسرائيل لمعايير الديمقراطية.
في الواقع ستكون تصفية «العليا» الإيذان الفعلي لحركة غير مسبوقة من المقاطعة، ومن الحصار السياسي والثقافي، وستطال المسألة الكثير من أوجه «التعاون» القائمة بين هذه المؤسّسات الدولية وإسرائيل. أقصد أنّ حركة المقاطعة ستأخذ طابعاً شاملاً، شرعياً، وتصبح هذه المقاطعة ليس مجرّد جزء من حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني وإنّما ستصبح بالضرورة مُكوّناً جديداً قويّاً ومشروعاً لتحوُّل المقاطعة عند درجةٍ معيّنة إلى ضغوط وحصار وردع وعقوبات.
وستجد حكومات «غربية» متزايدة حرجاً شديداً أمام برلماناتها، وأمام مجتمعاتها المدنية باستمرار دعم إسرائيل بالطرق والوسائل التي ظلّت هذه البلدان تدعمها بها، وستعود الحركة الديمقراطية والتقدمية في بلدان «الغرب» الداعم لإسرائيل إلى زخمٍ جديد ستكون بموجب هذا الزخم مطالبة أكثر فأكثر بالربط ما بين صعود الدكتاتورية، وتفشّي العنصريّة، والتغوُّل الاستيطاني، وصولاً إلى حتمية الربط ما بين النضال التحرّري للشعب الفلسطيني، ودعمه والانتصار له، وما بين التصدّي للدكتاتورية الصاعدة، والفاشية المتغوِّلة في إسرائيل.
وسيكون لهذه المواقف على المستوى الدولي تأثير مضاعف، وذلك لأنّ قطاعات متزايدة وكبيرة، أيضاً، من المجتمع الإسرائيلي تقف ضد مصادرة دور «العليا»، وضد الانقلاب الدكتاتوري فيها على طبيعة الحكم، وعلى طبيعة الدولة في إسرائيل.
أقصد أنّ إسرائيل ستكون للمرّة الأولى منذ قيامها أمام انقلاب معياري غير مسبوق، صاعق وصادم، وذلك بالتحوُّل في نظر مؤسّسات دولية بمئات آلاف المؤسّسات من دولة «ديمقراطية» (وحيدة) في كامل منطقة الإقليم، ومن «الواحة» الديمقراطية التي «تحاصرها» دكتاتوريات «متخلّفة»، وأنظمة استبدادٍ واستعبادٍ وفسادٍ إلى دولة دكتاتورية الصورة تكاد تكون كأنها انعكست إلى المسار الديمقراطي، ونجحت في هذا المسار، وإنّما لأنّ الدولة «الديمقراطية» (الوحيدة)، والواحة الفريدة قد انقلبت على شروط قيامها، وشروط تطوُّرها، وربّما على شروط بقائها، أيضاً.
بهذه المعاني كلّها، فإنّ مسألة المحكمة العليا في إسرائيل ليست مجرّد مسألة داخلية، كما لا يبدو أنّ كثيراً منّا، وكثيراً من الإسرائيليين، قد لاحظوا ذلك أو تمعّنوا به بما يكفي، وهي مسألة على أكبر درجات الأهمية والتأثير في مسار الأزمة الإسرائيلية.
أمّا إذا عدنا إلى هذه المسألة من زاوية تأثيرها، وتفاعلاتها المرتقبة على المجتمع الإسرائيلي، وعلى تطوُّرات، وربّما الانقلابات والقفزات المتوقعة من هذا التأثير، فإنّ الأمر هنا كبير وخطير وحسّاس إلى أبعد حدود الحساسية.
فإذا أقرّت «العليا» قانون «المعقولية» أو إلغاء المعقولية بالأحرى تحت أيّ سببٍ أو ذريعةٍ، فهذا يعني أنّ الشارع الإسرائيلي «المعارض والمعترض» على انقلاب «اليمين» على الديمقراطية في إسرائيل بات وظهره إلى الحائط، وبات بلا ملاذٍ أو حصنٍ أو قلعةٍ يلجأ إليها، ما سيُضفي بالضرورة طابعاً مفتوحاً وسافراً للصراع بين المُعسكَرَين، أو بين «المُعسكَرات» التي ستُولد في رحم هذا الغياب لآخر مؤسّسة يمكن لها أن تحمي ما تبقّى من بقايا ديمقراطية في مؤسّسة الحكم وفي بناء الدولة الإسرائيلية.
وأمّا في حالة أن أخذت المحكمة قراراً بإلغاء قرار (قانون) « الكنيست » الأخير حول «المعقولية»، فإنّ الأزمة لن تكون أبداً، ومطلقاً أقلّ خطراً على مسار الأزمة والصراع.
لا يوجد دليل على ذلك أكبر وأهمّ وأكثر ممّا صرّح به بنيامين نتنياهو نفسه، بأنّه لن يلتزم بقرار المحكمة في حالة أن قرّرت هذه الأخيرة إلغاء «القانون». وبطبيعة الحال فإنّ غالبية مُكوّنات الائتلاف ستكون إلى جانب رفض نتنياهو، مع أنّ بعض الأفراد (الأفراد ليس إلّا)، يمكن أن «يتمرّدوا» على عدم التزام نتنياهو لأسبابٍ لا يتّسع المقام هنا لشرحها، وهو الأمر الذي يعني أنّ الدكتاتورية الإسرائيلية الجديدة ستكون هي بدورها قد فتحت الصراع على آخر «البيكار»، وبذلك ستكون مساحة هذا الصراع أوسع وبما لا يُقاس من المساحة التي شغلها هنا الصراع حتى الآن.
أي أنّنا سنكون أمام حالة سوريالية من الناحية السياسية، وذلك لأنّ الخيار والاختيار سيكون بين «المصيبة والمصيبة الأعظم»، أو بين السيئ للغاية والأسوأ منه، دون أن نعرف - وهذا هو الوجه السوريالي في المسألة كلّها ــ أيّهما السيئ للغاية، وأيّهما الأسوأ منه؟!
ما زال أهل «المركز والوسط» وبقايا «اليسار» في إسرائيل يحدوهم الأمل بأن «صوت العقل» سيتغلّب في النهاية، أو أنهم يُراهنون على تراجع نتنياهو في لحظاتٍ حاسمة من الساعات الأخيرة، لكن الحقيقة أنّ نتنياهو هو الذي يراهن على تراجعهم في تلك الساعات، بحيث يهربون إلى حلول ترقيعية تُبقي «اليمين الفاشي» مُمسِكاً بتلابيب الحالة الإسرائيلية، ومُحكِماً سيطرته على نظام الحكم، وبُنية الدولة التي يخطّط لها كل «اليمين» المؤتلف في حكمها.
إسرائيل تحوّلت إلى كابوس لأكثر من نصف سكانها، وكابوس للإقليم، وللعالم، وللسيّد الأميركي في البيت الأبيض الذي لم يعد يعرف من أيّ جهةٍ يتلقّى الضربات والنكسات، ولا يعرف كيف سيتخلّص من هذه الكوابيس التي تأتيه تباعاً.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد