في المقال السابق قلنا إن البحث في غياب الرواية التاريخية يأخذ زاويتين متقابلتين، واحدة تعنى بالبحث بغياب سردية وطنية حول تاريخ البلاد فيما تعنى الثانية بتعزيز ظهور الكتابة الروائية ذات العمق التاريخي من أجل توطين تاريخ البلاد في المدونة الأدبية الفلسطينية. وهذان اتجاهان لا يسيران في خط مستقيم بالضرورة وبالتالي فهما غير متوازيين ويتقاطعان بشكل مستمر.

إن التأسيس لرواية تاريخية في ظل الغياب غير المبرر لمثل هذه الرواية يعني الالتفات لجزء مهم من الصراع مع المشروع الإحلالي الكولونيالي الذي تمت صياغته وتنفيذه من أجل سرقة البلاد من أهلها ومنحها للغرباء حتى تصبح لهم وطناً.

ثمة الكثير من التبريرات التي تكشف سبب تواطؤ الغرب مع المشروع الصهيوني وربما وبكثير من اليقين ساهمت قواه الكبرى في دعم بروز الصهيونية وهذا يجب أن يكون موضع نقاش آخر، ولكن المؤكد أن نتائج المشروع الصهيوني الأكثر أهمية بالنسبة للقوى الغربية كان التخلص من يهود أوروبا. وقد يكون مفاجئاً مثلاً أن نعرف أن اللورد بلفور كان من دعاة التخلص من يهود بريطانيا لما في ذلك من مصلحة للإمبراطورية.

وهرتزل نفسه أطلق على وجود اليهود «المسألة اليهودية»، لذا فإن وجود الصهيونية ترافق مع رغبات أوروبية داخلية من أجل إيجاد حل لهذه المسألة.

ومع كل هذا فإن غياب رواية فلسطينية تاريخية قائمة على سرد وجود شعبنا في البلاد وتفسير الكثير من المراحل التاريخية وتقديم وجهة نظر في الكثير من الأحداث، من منطلق فلسطيني بحت، هو سبب أساس في نجاح المشروع الصهيوني في تحقيق الكثير من أطماعه ومشاريعه.

صحيح أننا لم نكنس من بلادنا وأن سرقتهم لأكثر من 78 بالمائة من أرض الآباء والأجداد وقضمهم المستمر لمناطق الضفة الغربية، وقتلهم مئات الآلاف من أبناء شعبنا وسجنهم لمئات آلاف آخرين لم ينتقص من قوة وصلابة شعبنا ولم يغير من حقيقة ملكيتنا للبلاد بكل ما فيها ولها وعنها، وصحيح أننا ما زلنا شوكة في حلوقهم، ولكن أيضاً كان يمكن للكثير من ذلك ألا يحدث لو كان ثمة رواية تاريخية تم العمل على ترويجها ومناهضة الرواية الزائفة.

وجود رواية لا يعني أن هناك حقاً مستحقاً يتحقق من تلقاء نفسه إذ إن جزءاً أساسياً من هذا الحق هو تقديمه للآخرين من أجل أن يؤمنوا به.

إن حرب الرواية التي تتم الإشارة إليها في الأدبيات الفلسطينية المعاصرة هي جزء من هذا الفهم المتنامي لأهمية تطوير رواية تاريخية فلسطينية، تستند في الأساس إلى ماذا نريد أن يعرف الناس عنا وكيف يعرفونه.

هذا يعني سرد الحقائق من وجهة نظر المصلحة التاريخية الفلسطينية لا أن يتم الاعتماد على الكتابات الغربية التي تم تطويرها مثلاً وفق ما يخدم التوجهات الصهيونية، ولا أن تتم الاستعانة بالإسرائيليات التي وقعت ضحيتها التفاسير الإسلامية بعد دخول اليهود وأحبارهم في الإسلام.

وهنا نكون وضعنا يدنا على مكمنين من مكامن الخلل في الرواية التاريخية الفلسطينية باعتمادها إما (1) على الكتابات الغربية التي كانت في جلها قد تم صوغها من أجل تعزيز توجهات المشروع الصهيوني أو أنها جاءت في مراحل مبكرة من أجل تعزيز الهيمنة والتفوق الأوروبي القديم خاصة اليونان وروما.

لاحظوا أن أقدم رواية يتم تبينها قد كتبها اليونان في حديثهم عن أن فلسطين أصلها من شعب الفاليستا الذي جاء من اليونان. وفيما لا توجد آثار مادية يمكن أن تشير ولو بوهن لهذه الكذبة فقد تم تبنيها حتى في الجامعات الفلسطينية وترديدها كأنها قدر وليست مجرد وصف يوناني من أجل القول بهيمنة قبائل اليونان على ضفتي المتوسط.

وعلى افتراض ذلك فلماذا لا يكون الفلسطينيون الأوائل البارعون في ركوب البحر قد استوطنوا مجموعة جزر يونانية كما فعلوا في قرطاج وشمال أفريقيا ثم عادوا إلى بلادهم بعد مئات السنين إذ أصاب تلك الجزء القحط أو نتيجة حروب داخلية.

وإما (2) على الإسرائيليات التي هيمنت عل تفسير الكثير من الإشارات التاريخية التي وردت في القرآن الكريم أو تم ذكرها في الأحاديث النبوية الشريفة. وهي تفاسير لا يمكن إثباتها بأي أثر مادي ولا يمكن الوقوف على الأسباب وراءها، لكن المؤكد أنها جاءت من كتابات غير مقدسة ولم تكن غايتها تثبيت الدين الجديد.

وبشكل عام فإن النص القرآني الكريم لا يوجد فيه ما يشير إلى فلسطين حين يتحدث عن اليهود ولا يوجد أي ربط بين وجودهم وبين البلاد المقدسة المشار إليها.

وهذا موضع بحث آخر لكن المؤكد أننا بحاجة لمقاربة تاريخية تتحرر من هذا التفسير ولا تستند إلا للمحكم من الحديث الشريف وليس الضعيف السند منه ولا تأخذ بكل ما جاء في التفاسير بوصفه مقدساً إذ إن النص المقدس الوحيد هو كلام الله وكلام الله وحده وليس ما فهم البشر منه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد