في واشنطن هناك مبنى أسفل الأرض يحتاج الزائر إلى النزول درجات السلالم للوصول إليه يسمّى متحف العبيد، حيث كان يحتجز العبيد الذين يتم نقلهم أو صيدهم من أفريقيا، الأوتاد الحديدية التي كانت تقيدهم مغروسة في الأرض، كل شيء بقي كما هو، رائحة المكان الرطبة، الحجارة التي تفصل بين الحظائر حيث حظيرة صغيرة لكل عبد، وحين سألت الدليل عن إبقاء الولايات المتحدة لهذا المكان الذي يجسد تاريخاً مخجلاً بالنسبة لها قال: قد يكون نوعاً من الاعتذار لفئة من البشر تعرضت للاضطهاد والتمييز بسبب اللون والتي أصبح أحد ممن يحملون بشرتها السوداء رئيساً للولايات المتحدة.


أثناء فترة جائحة كورونا التي اجتاحت البشرية كانت مجموعات من الطلاب والأجيال الشابة الجديدة في بريطانيا تستعيد ماضي الدولة الاستعبادي وتحطم تمثال تاجر العبيد إدوارد كولستون وتلقي به في النهر بمدينة بريستول، وكادوا يحطمون تمثال بطل بريطانيا في الحرب العالمية الثانية ونستون تشيرشل لأنهم اكتشفوا أن أحد خطاباته في أربعينيات القرن الماضي يحتوي جملة تحمل شبهة تأييده للعبودية، لكن الأمر انتهى بصفقة مع الشرطة يتم فيها تغطية التمثال.


هولندا اعتذرت عن ماضيها الاستعماري لجميع شعوب أفريقيا التي مارست بحقها الاحتلال والعبودية قبل قرون، وقدمت إيطاليا كذلك اعتذارها وتعويضات لما ارتكبته من فظائع بحق ليبيا حين كانت دول الشمال القوية تستبيح دول الجنوب الفقيرة دون أي رادع أخلاقي أو إنساني.


ماكرون الرئيس الفرنسي وفي إحدى جولاته الانتخابية وقف على شفا الاعتذار عن الماضي الفرنسي الكئيب، لكن يبدو أن الدولة الفرنسية الغنية ثقافياً لكن مكانتها الاقتصادية ليست كذلك تخشى أن تدفع إرث مائة واثنين وثلاثين عاماً من الظلم للجزائر وقد ينسحب الأمر على تونس وسورية ولبنان، لقد اعترف رئيس فرنسا بالجرائم لكن الدولة الفرنسية التي لا تعطي حق الاعتذار للرئيس ما زالت تعلق الأمر، بكل الظروف لقد أصبحت تلك المسألة جزءا من النقاش العام في باريس.


في إسرائيل يحتفلون بذكرى الاحتلال بفرح عارم ...! يقيمون له عيد ميلاد ويهنئون بعضهم ويضيئون الشموع، وما بين الاتجاه العالمي الصاعد باتجاه حقوق البشر وثقافة المساواة والعدالة الإنسانية يتقاتلون في إسرائيل ويقسمون وزارة الدفاع ويقتطعون جزءا منها لوزير مسؤول عن إدامة السيطرة على شعب آخر واستيطان أرضه وتكريس الفصل العنصري وضم مناطقه وترحيله إذا سمحت الظروف.


بعد إقامة إسرائيل بعقود وفي تسعينيات القرن الماضي وبعد توقيع اتفاق مبادئ مع الشعب الذي تعرض لمظلمة تاريخية، بدأت في إسرائيل حركة أكاديمية عرفت بالمؤرخين الجدد أرادت نبش التاريخ المظلم للدولة وما ارتكبته عصابات الأرغون وليحي والهاغاناة، كان متوقعاً أن تنتقل تلك الحركة للحقل السياسي ولكن سرعان ما تعرضت للانكسار وبدلاً منها كانت تتمعن إسرائيل أكثر في حالتها الاحتلالية الاستعمارية التمييزية بشكل مركب وتعيد إنتاج ذاتها بشكل أكثر استعباداً للبشر، وتنتج حكومات يمينية تعتبر أن كل ما تم ارتكابه من تطهير عرقي في أربعينيات القرن الماضي لم يكن كافياً عندما سمح بإبقاء جزء من الشعب الفلسطيني على أرضه بدلاً من الاعتذار ....!


بدلاً من تصحيح خطأ تاريخي بتهجير شعب تؤنب إسرائيل نفسها بأنها لم تمارس التطهير بإتقان محكم. أي عقل هذا وكيف يمكن التفاهم معه ؟ وكيف يجد العالم الذي يصبح فيه شعار العدالة موضة ثقافية تنتشر بين الأجيال الشابة قاسماً مشتركا مع الفكر السياسي في إسرائيل ؟ والغريب أن الأجيال الإسرائيلية الجديدة تبدو كأنها لا تنتمي لهذا العالم بل تعمق من انفصالها مع القيم العالمية. وللسخرية وسط هذا الوضوح تعطي رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين درساً في الفساد الأخلاقي وتعرية القيم في قارة تعتذر عن ماضيها.


وحري بأوروبا أن تعزل هذه المرأة حتى لا يصبح الفساد الأخلاقي ثقافة سياسية من أجل الأجيال الأوروبية الصاعدة.


في الدوائر السياسية المغلقة في الغرب باتوا يشيرون لإسرائيل كدولة تمييز عنصري، وفي أعلى الدوائر الأميركية يهمسون بذلك وهم يتابعون ويقيسون السلوك الإسرائيلي على مسطرة معاييرهم وليس معايير الفلسطينيين فيبدو بنظرهم مخجلاً. لكن لا أحد حتى اللحظة امتلك الجرأة للتصالح مع نفسه للإعلان عما يقوله همساً، لا أحد يسأل إسرائيل: وماذا بعد ؟


في إسرائيل تبدو الأمور أسوأ حيث يقف جدعون ليفي وعميرة هاس وحيدين بل ومنبوذين في دولة تقدس الاحتلال وتفخر بأبنائها الذين يتجندون لحراسته واستمرار السيطرة على شعب آخر، بل تضطر الدولة لتعيين حراسة على ليفي خوفاً من بطش المزهوين بقمعهم للفلسطينيين والفخورين باحتلاله وممارسة التمييز بحقه ...يبدو أن على إسرائيل أن تغرق أكثر في اليمينية إلى الحد الذي يزكم أنوف الجميع أكثر. فالوصول لهذا الحد من الكاهانية يبدو أنه ليس كافياً لعالم يتصنع فقدان كل حواسه.
في عيد ذكرى الاحتلال يجري نقاش حاد لدرجة الانقسام بين جزأين في المجتمع تعبر عنه التظاهرات الضخمة لكن القاسم المشترك بينهما هو استمرار الاحتلال، بل يبدو طابع الجدل الدائر حول الإصلاحات القضائية حول كيفية استمرار السيطرة على الشعب الفلسطيني مع استمرار علاقات متينة مع الخارج لأن الإصلاحات قد تؤثر عليها وتضعف من قدرة إسرائيل على استمرار مشروعها الاستيطاني ...هكذا يفكرون وهم يقيمون عيد ميلاد للاحتلال ...ما هذا ؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد