المشهد يتكرر، ولكن بمأساوية تراجيدية. فلا شئ في المدينة سوى الدم والعجز ..التضحية و التخاذل .. التحدي وقلة الحلية . هذا هو المشهد الطاغي والمتناقض حد الاشتعال بكل ما يلفه من عجز وصمت مريبين . ومع مثل هكذا مشهد، وكلما اشتدت ظلمة الطريق، تنهض أمامي ذكرى رحيلك شهيدًا، وأنت في ريعان عطاء الشباب و اتقاد شعلة الأمل. نتوقف في كل ذكرى أمام الهدف الأسمى الذي قدم الشهداء أرواحهم وما زالوا يقدمونها في سبيله، ألا وهو بلوغ الحرية والكرامة. ورغم ما يخيم على هذا الطريق من ظلمة حالكة، فإن ما تشهده البلاد في يوم ذكراك العطرة و ذكرى كل الشهداء تعيد ومضة حزينة من بريق أمل يتراكم في قنديل كفاح شعب لن تنكسر إرادته، حتى لو ارتعشت قلوب المهيمنين على  المشهد .

لم تتمكن السنوات الخمسة وأربعين التي مرت على إستشهاده " في الرابع من نيسان أبريل 1978" من مداواة وجع تلك اللحظة، عندما تمكنت قنبلة عنقودية اسرائيلية من حياته المفعمة بالأمل والابتسامة المشرقة على محياه. كان ذلك خلال معارك التصدي لاجتياح الليطاني في جنوب لبنان . فمازال ذلك الوجع حياً وطرياً في الذاكرة والوجدان، كما هي ذكرى الشهداء الأوائل التي ترسم لنا وللأجيال الشابة معالم طريق لم يُكتمل بلوغه بعد، بل تشتد وعورته ومخاطره .

لم يكن الشهيد "بشير زقوت" مجرد شاب من أبناء جيل النكبة الذي ولد ونشأ وترعرع في مخيمات اللجوء، وعركته الحياة طريداً في عواصم الترحيل ومراكز الإعتقال العربية والاسرائيلية، بقدر ما كان متمرداً على واقع النكبة والهزيمة، وعلى مدى خنوع تلك العواصم. عاش وقضى وروحه المشرقة بابتسامته العريضة تبث الأمل وتزرع التفاني من أجل خلاص قادم قلَّ من كانوا قادرين على رؤيته في تلك الأيام.
إن ذكرى إستشهادك ، وأنت تواجه مع قوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية الإجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني في ربيع 1978، موحدين تحت شعار " لا صوت يعلو فوق صوت تحرير الجنوب"، هي مناسبة ملحّة لنا نحن الذين عايشناك وواكبنا درب الكفاح القاسي بانجازاته و انتكاساته، بأن نتوقف قليلًا لإستخلاص عبر و دروس تلك السنوات ومحطاتها .فشعار وحدة المواجهة دفاعاً عن الجنوب أثمر بعد سنوات ليست طويلة إنتفاضة شعبية مجيدة عام 1987، بدأت في تصويب مسار التاريخ والقضية الوطنية،بل وشعار مسيرة الثورة نحو الانتفاضة بأن " لا صوت يعلو على صوت الانتفاضة". نعم لقد كانت محطات كفاحية مترابطة كسلسلة طويلة نحو هدف لم ولن يخبو مهما شهد من تراجع أو بدا وكأنه بعيد. فسنوات الأمل وفرسانها لن تُقهر أمام لحظات الإحباط والتخاذل، وإن بدت تلك اللحظات عاتية الظلمة لا فكاك منها.

في زمن يبدو وكأنه رديف الردَّة، ما زلت أحتفظ بكلماتك التي باتت دستور حياة الأجيال الشابة التي لن تساوم على حريتها وكرامتها ، "بأن طريق تحرير الأوطان هو طريق القلة القليلة التي آمنت بحقوق الشعب وحتمية النصر" .
فكل واحد من الشهداء كان يعبد بدمائه الغالية الطريق نحو حرية الوطن، ويروي شجرة الأمل في الخلاص من عذاب التشرد وظلم الاحتلال، ويستنهض القدرة على تحويل الحزن إلى وعد قادم بالفرح. 

في ذكرى استشهاده، يتساءل بشير، كما يتساءل، كل شهداء فلسطين كل يوم سؤال الحزن والفرح: ما الذي يجري؟ أهذا ما قدمنا حياتنا من أجله؟ لماذا أصبح الحزن ثقيلاً؟ وماذا حل بوعد الفرح؟! هدأت من روعه، بأن وروداً بيضاء ما زالت تزرع وتجدد عطرها على ضريحيّ والدينا في مقبرة الشيخ رضوان بمدينة غزة العصية على الهزيمة أو الانكسار ، وأن رسالته قد وصلت لهما مع وعد بزيارة أكيدة ربما في العام القادم، وربما بوعد جديد بالفرح .
كان في مثواه يأمل بقدرة "أم بشير" على استمرار الوفاء بزيارة ضريحه، وهي التي لم تترك سياجات حدود العواصم تعيقها كلما سنحت لها فرصة بذلك، لتروي ورود مقبرة الشهداء، وتعيد على مسامعه ما كانت قالته لقائده ممدوح نوفل، عندما زارها مواسيًا بعد مواراة جثمان فلذة كبدها في مقبرة الشهداء" أنا لست حزينة إلا لأنه استشهد قبل أن يرى فلسطين الحرة المستقلة التي طالما حدثني عنها"، وتُكرر له سؤالها الدائم؛ هل تُروى أضرحة الشهداء أم جفت الورود؟!

ويكبر سؤال الشهداء .. هل ما زال وعدكم لنا بالفرح ؟ إن أرواح الشهداء ..كل الشهداء تعود وتحلق في فضائنا الملبد ، وتبث فينا دوماً بصيص أمل كم نحن بحاجة إليه، ليس فقط  لنحمي تضحياتهم أو نحيي ذكراهم الخالدة، بقدر ما نسلتهم منها بوصلة المستقبل لشعبنا وأجياله الشابة .

ويظل السؤال الذي لابد من المجاهرة الشجاعة به وهو : هل يمكن لشعب الشهداء أن يكون مطمئناً على مستقبل هذه الأجيال وهي تُطحن ببلادةٍ وقلة حيلة، بل وبأنانية المتحمكين في مصيرهم، وعدم اكتراثهم بحقوقهم في الابداع وحرية التعبير والمشاركة في صنع مستقبلهم وتحديد خياراتهم الوطنية والاجتماعية ، وخاصة الحق الأساسي في التعليم الذي كان دوماً سلاح الفلسطيني في مواجهة نكبته وتشرده. فهل حتى سلاح العلم بات ملاحقاً أيضاً ؟! وهل يمكن لهذا الشعب أن يسمح بالتفريط بكل ما قدمه من تضحيات ؟! اطلاقاً لم يعد الصمت ممكناً، وهذا واجبنا الذي لن نحيد عنه . فارادة شعب التضحيات لن تكسرها ميليشيات بن غفير، ولا انحرافات الانقساميين .

لذكراك وكل الشهداء باقة ورد نضعها على مثواك، وعلى أضرحة كل الشهداء في مقبرة شهداء فلسطين في بيروت وفي كل مكان من هذا الكون. ولروحك ولأرواحهم التي لم تغادر فضاء فلسطين عهد بأن نظل نربي الأمل الذي أشعلتموه لنا، ونظل نروي الدالية و الزيتون الذي زرعه أجدادنا في هذه البلاد، و يرويه الشهداء بدمائهم ،كما ترويه أمهاتهم بالدموع ، حتى يثمر بسمة على شفاه أطفال فلسطين ، وكم يستحقونها !
كيف لنا أن ننتصر على الموت .. إن لم نصنع الحياة؟! هذا وفاؤنا للشهداء : رسالة الحياة رغم الحزن والموت، فأيام الحزن كثيرة، وعلينا أن نجعل أيام الفرح القادم أكثر . "فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"

*يصادف اليوم الرابع من نيسان/ أبريل الذكرى الخامسة والأربعين لاستشهاد القائد البطل بشير زقوت .

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد