في المقال السابق قُلنا: إن العالم يتغيّر ويتحوّل بصورة متسارعة، وبوتائر غير معهودة نحو تعدّدية قطبية جديدة، بدأت تفرض نفسها على تطوّرات كبيرة تشهدها أقاليم عدّة في هذا العالم، ومن ضمنها الإقليم العربي، والإقليم الشرق أوسطي كلّه.
نظرياً فإن فلسطين أمام فرصة فريدة للاستثمار السياسي الفاعل في تغيّرات وتحوّلات العالم والإقليم، لكن هذا الاستثمار سيفشل حتماً إذا بقي العامل الذاتي الفلسطيني على ما هو عليه من ضعف وهشاشة وتفكك وتهتّك وارتهان.
ليس هذا فحسب، وإنما سيؤدي هذا الحال الذي نحن عليه إلى استثمار مضادّ في ضعفنا وهشاشتنا، وتجيير، وإعادة تدوير الحالة الدولية والإقليمية «للإجهاز» علينا، و»تبديد» حقوقنا، و»مصادرة» أهدافنا، وقد تصل الأمور ــ وهذا كلّه ليس من قبيل «المبالغة» ــ إلى فرض الإلحاق والوصاية علينا، كما كانت عليه حالتنا بُعيد « النكبة » مباشرةً، وهذا كلّه نظرياً، أيضاً.
قد يقول قائل: وهل يُعقل أن نصل إلى أوضاع كهذه، ونحن لدينا كلّ هذه التجربة السياسية؟ ولدينا منظمة التحرير الفلسطينية، المعترف بها من قبل شعبنا كلّه بصرف النظر عن واقعها وتهميشها، والمعترف بها من قبل الغالبية الساحقة من شعوب الأرض ودولها؟ ولدينا سلطة وطنية بات لها مؤسسات رسمية أقرب إلى مؤسسات دولة معترف بها في الأمم المتحدة، وتحاول الحصول على الاعتراف الكامل بعضويتها في المنظمة الدولية؟ وهذا كلّه صحيح نظرياً.
وكيف سنصل إلى «الإلحاق والوصاية والضياع والتيه الجديد» ونحن نمتلك عشرات الفصائل، ومنها المسلّحة بآلاف الصواريخ في قطاع غزة ، وينتشر آلاف المسلّحين الذين تحوّلوا إلى «محور» جديد، جاذب وفعّال في مواجهة الاحتلال في الضفة الغربية كلّها؟
ثم ماذا عن هذا الحجم الهائل من الدعم الشعبي العربي والعالمي للقضية والحقوق الوطنية، وكيف لنا أن نصل إلى حالة الوصاية والإلحاق وشعبنا يمتلك هذا التراكم الزخم من الوعي الوطني، ومن الإرادة والعزيمة التي أثبتت أنها أقوى من كل الظروف، وأصلب من كل التحدّيات والمؤامرات؟
وقد يقول قائل آخر: ماذا عن أزمة «الغرب» التي تكاد تطيح به عن عرش العالم؟ وماذا عن أزمة إسرائيل، الدولة والنظام والمجتمع؟ وماذا.. وماذا.. وماذا؟
كل هذا صحيح، وكل هذه الأسئلة مشروعة، ولكن المسألة في الحالتين: حالة الفرصة التاريخية الجديدة والفريدة هي فرصة نظرية، وحالة التيه والضياع، وربما الوصاية والإلحاق هي حالة نظرية مقابلة، ممكنة التحقُّق تماماً كما هي ممكنة التحقُّق الفرصة التاريخية الفريدة؟
مع وصول الحالة الدولية إلى ما وصلت إليه، وسمتها الرئيسة هي تراجع «الغرب»، ومع وصول الإقليم إلى ما وصل إليه، وسمته الجديدة هي محاولة «الانعتاق» من التبعية المطلقة لهذا الغرب، والاستثمار في الوضع الجديد، ومع وصول الأزمة في إسرائيل إلى الدرجة التي وصلت لها، والسمة الجديدة فيها، الانتقال الفعلي إلى الفاشية، وتحكُّم القوى العنصرية بالدولة، وبالنظام السياسي والمجتمع فإن ما يقرّر (المصير المنظور) للشعب الفلسطيني هو العامل الذاتي، وفي العام الجديد على ما يبدو من زاوية المرحلة الزمنية، وفي الضفة الغربية تحديداً من زاوية الحيّز المكاني، إضافةً إلى ساحة «الداخل» المرشّحة للانفجار.
سيكون لـ»الداخل» الفلسطيني الشأن المهم والكبير، وسيكون لقطاع غزة نفس الشأن والأهمية، وكذلك لـ»الشتات» الفلسطيني.. لكن هذا الشأن، وهذه الأهمية سيتحدّدان لاحقاً، لأن القطاع تم تجاهله بالكامل من قبل الاحتلال الإسرائيلي بعد أن وافقت حركة حماس عملياً على استقطاعه من الجسد الوطني، وفصله عملياً، أيضاً عن الحالة الوطنية، مقابل الإبقاء على تحكُّمها به هناك، وهو «خارج» المعادلة المباشرة للصراع في المدى المباشر.
سيلتحم «الداخل» مع «الضفة» ــ كما أرى ــ قبل «القطاع» و»الشتات» لأن الأهداف المباشرة للحكومة المتطرّفة الجديدة واضحة ومحدّدة وملموسة.
دعونا نعُد الآن إلى العامل الذاتي الفلسطيني الذي يستأثر بالواقع الفلسطيني في الضفة تحديداً، لما لهذا العامل من أهمية حاسمة ناجمة عن ساحة الصراع الرئيسة كما هي مدرجة على جدول أعمال حكومة التطرّف اليميني التي ستباشر أعمالها قبل نهاية العام الجديد.
إسرائيل ترى أن الحسم يجب أن يتم في موعدٍ أقصاه سنة واحدة من الآن أو أكثر قليلاً، والسبب المباشر لهذا «الاستعجال» هو «القراءة» الصحيحة والدقيقة للوضع الدولي والإقليمي، وآفاق تطوّر هذا الوضع على وجه التحديد.
«الغرب» الآن «منهمك» لكيّ لا تنهار أوكرانيا قبل الأوان، و»الغرب» فقد زمام المبادرة العسكرية، وقد طوى الخيار العسكري في تايوان، وأوروبا يتركز اهتمامها الأوّل على «درء» الانفجارات الاجتماعية، والإقليم العربي كلّه سيتعامل مع نتنياهو مقابل «إعلان شكلي» بعدم الضمّ، حتى وإن باشر، وعلى الفور بالضمّ الزاحف، والاستيطان الجارف، وتركيا وافقت على «ترتيب» الحالة السورية بالتوافق مع أُسسٍ صاغتها روسيا بصورة رسمية، وإيران انكمشت، وهي تفضّل «الاختباء» في ثنايا الحلف الروسي الصيني «الجديد»، وفقدت الكثير من الأوراق الداخلية في العراق، والأزمة الاقتصادية في لبنان أكبر من أن تتحمّل تبعاتها، واليمن بات ينتظر الصفقة الشاملة.
هذا كلّه يعني أن الفرصة مواتية للحسم من زاوية الرؤية الإسرائيلية لأن أحداً ليس معنياً بالعبث الكبير في هذه الوقائع.
إيران «أجّلت» الملف النووي، وليس بواردها الآن أي تصعيد إقليمي، وقطاع غزة سينشد الهدوء، لأن إيران لا تريد التصعيد حالياً، ولا لاحقاً بعد أن يتحوّل «ملفّها» إلى ما بعد الترتيبات الدولية والإقليمية الجديدة، وحالة «المقاومة» في غزة هي حالة «إيرانية» بامتياز.
وتراهن إسرائيل في هذه الأثناء على أن كلّ «المجتمع الدولي» وكلّ مؤسسات القانون الدولي ستظل مشلولة إلى ما بعد مرحلة التعدّدية القطبية، وهو ما يعني أن لديها ما يقارب السنة الكاملة للحسم.
فهل العامل الذاتي الفلسطيني في الضفة تحديداً لديه القدرة، والاستعداد، والجاهزية لمواجهة هذه الأخطار المُحدقة؟
الجواب: لا.
• المنظمة ما زالت على حالها الواهن والمشلول والمهمّش.
• السلطة الوطنية هي الواجهة الرئيسة، وهي في الواقع تشكل الخطر الأكبر على إعادة تفعيل المنظمة، وهي تحولت إلى البديل الأكبر عنها، وليس لديها أبعد من المراهنات السياسية التي تلاشت في الواقع.
• حركة فتح في حالة نزيفٍ دائم، ومُتواصل.
• فصائل «اليسار» ليس لها هوية ولا نهج مستقل، وهي جزء من حالة الفشل والاستقطاب.
• الفصائل الصغيرة الملحقة حدِّث ولا حرج.
• المجتمع المدني فاقد للفاعلية القائمة على أُسس ديمقراطية، وعلى قواعد العدالة الاجتماعية المفصولة عن الاستقطاب السياسي، وغالباً ما تكون «معاركه» جزءا رديفاً ومباشراً لحالة الاستقطاب.
• الظواهر الجديدة، والمظاهر الجديدة «العابرة» للفصائلية، وخصوصاً المسلّحة منها يُنظر إليها شعبياً كحالة «نبيلة» وشُجاعة، بل وبُطولية، ولكن تحوّلها إلى محورٍ وطني شعبي منظّم ما زال بعيداً، لأن الجديد الوطني والشعبي لم يتبلور بعد، ولأن القديم المتهالك لم يُسلّم بعد، ولأن كل الحركة الوطنية الفلسطينية تعيش حالة «انتقالية» نستطيع أن نصفها حسب قوانين الفلسفة بالآتي: (الجديد في حالة نمو، ولكنه لم ينضج، ولم ينتصر بعد، والقديم في حالة تراجع، وهو واهن وضعيف، ولكنه ما زال قادراً على المقاومة).
أزمة العمل الوطني الفلسطيني، ومظهرها الأخطر أن الفترة الزمنية القادمة، السنة أو السنة ونصف السنة القادمة هي المرحلة التي سيحاول المشروع الصهيوني فرض الوقائع التي لا يستطيع الواقع الدولي والإقليمي «الجديد» تجاوزها، أو هكذا تفكّر إسرائيل!
فإذا كانت الحركة الإسلاموية التي تحكم القطاع بقشورٍ وطنية أصبح هدفها الأكبر الإبقاء على حُكمها هناك، وهي تعرف وتُدرك بعمق أن الثمن المطلوب هو «الانفصال»، والانفكاك، وهي توافق ضمنياً على ذلك، وإذا كان النظام الرسمي في الضفة قد فقد كلّ أمل في المراهنة على حلول سياسية، ولكنه ما زال يُراوح في نفس الدائرة، ويكرّر نفس المقولات، وإذا كان «اليسار» الفلسطيني يشهد ويعيش أكبر حالة «تصحُّر» فكري وسياسي منذ نشأته وحتى اليوم، وإذا كان «المجتمع المدني» مستلباً ومستقطباً، بل ومختطفاً في الواقع من حالة الاستقطاب المرضيّة، فكيف سيتم إسقاط مخطّط «اليمين» الإسرائيلي الهائج؟
كما أنقذ الشعب الفلسطيني حركته الوطنية في مراحل سابقة، لم يعد أمام هذا الشعب سوى أن ينزل إلى الشارع لينقذها من جديد، مع أنه لا يجوز أن يتسامح معها بعد اليوم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد