الانتخابات الفلسطينية التشريعية والرئاسية قادمةٌ لا محالة، شاء الفرقاء أم أبوا، وسواءٌ عليهم أتفقوا أم اختلفوا، أو توحدوا على رأيٍ وقرارٍ رشيدٍ، أو حافظوا على انقسامهم البغيض، وعمقوا اختلافهم القديم، ومضوا في طريق الفرقة ودروب العداوة، وتفلسفوا في وضع الشروط ورسم التصورات، ووضع العراقيل وصناعة العقبات، فإن الانتخابات ستكون، والاستخلاف سيقع، والاستبدال سيفرض.
ذلك أن الزمن لن ينتظرهم، وسنة الحياة لن تتعطل من أجلهم، وطبيعة الأشياء لن تقف إكراماً لهم وإجلالاً لاختلافهم، بل إن سنن الحياة ستمضي وسنخضع لنواميسها، وسيأتي اليوم الذي تخلو فيه سدة الرئاسة الفلسطينية قسراً، ويصبح كرسي الرئاسة شاغراً فيها حكماً، يبحث عن البديل، وينتظر الجديد، الذي إما أن نختاره نحن بإرادتنا الخاصة والمستقلة، وفي الوقت الذي نحدده نحن ونختاره، أو أن يفرض علينا ويأتي قراره من غيرنا، فنلزم به، ونخضع له، ونسكت عن طريقة اختياره، ووسائل فرضه، علماً أن الأطراف المعنية بشخصية الرئيس الجديد كثيرة، فلسطينية وعربية وإقليمية ودولية، كلهم له رأيٌ وعنده اجتهاد، ولديه وسائل ضغطٍ وعوامل إكراه، وقد شغلهم هذا الأمر وأهمهم استحقاقه.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس مشى في درب الثمانينيات من العمر، وهو درب الرحيل الذي لا يستطيع وقفه ولا إبطاءه أو تأخيره أو العودة به إلى الوراء، ولو تمنى ورغب وأحب البقاء أكثر والعيش أطول، فإنه راحلٌ رغم أنفه، وميتٌ لا محالة، ومفارقٌ للأهل والصحبة والرئاسة، ومودعٌ للحياة حتماً، فجأةً دون مقدماتٍ، بقدرٍ محتومٍ وخاتمةٍ مكتوبةٍ، أو بعد إشاراتٍ وإندارات، وعلاماتٍ وظواهر، تشير إلى دنو الأجل وقرب الرحيل، فإنه في النهاية مفارق، فهذا هو إيماننا العقدي أن كل نفسٍ ذائقة الموت، وأن الوفاة خاتمة كل حيٍ إلا الله عز وجل، فلا شئ مما نرى في الحياة تبقى بشاشته، بل يبقى الإله ويودي المالُ والولدُ.
وهو عمرٌ يصعب فيه المضي في الحياة فضلاً عن الحكم، ولا يمكن الرهان على استمراره بصحةٍ وعافيةٍ وعقلٍ وحكمةٍ ورشدٍ واتزان، إذ فيه علامات الخرف والنسيان، وفقدان التوازن وعدم التركيز، والضعف والحاجة إلى السند والرفيق، ومن يأخذ باليد وينظر له بالعين، ويقرأ له الحرف ويملي عليه الكلمة، وغير ذلك مما لا ينبغي أن يكون مصاحباً لرئيسٍ أو حاكمٍ، يتحكم في مصائر الناس، ويدير شؤون العباد، وبيده القرارات وعلى لسانه الأوامر والأحكام، فهذا عمرٌ لا ينبغي أن يكون فيه الإنسان حاكماً، رئيساً أو ملكاً، والتاريخ على ذلك خير شاهدٍ، فكم أنست الأيامُ الطاعنين في السن، وأصابت عقولهم ببلهٍ وسفهٍ وجنونٍ، وأضحكت عليهم الصبية والكبار، وأخجلت تصرفاتهم الشعب والأهل، ودفعت الكثيرين للبراءة منهم والتخلي عنهم، ودعت إلى وجوب تغييرهم وسرعة استبدالهم، حرصاً على سمعة الشعب وكرامة الوطن وسلامة القضية.
هذا الأمر يفرض على الرئيس الفلسطيني الذي أعتقد أنه يدرك كل ما سبق، ويعي سنن الحياة وطبائع المخلوقات، أن تكون له كلمة الفصل الأولى بإعلان استقالته رسمياً، على أن تدخل الاستقالة حيز التنفيذ بعد ستة أشهرٍ من إعلانه عنها، ليتمكن الفرقاء من تدارس شؤونهم، وحزم أمورهم، واتخاذ قراراتهم، فإما يمضون في سنة الاستخلاف ويلتزمون بقوانين الانتخابات، فيرشحون آخرين غيره، ويفاضلون بينهم في الانتخابات اختياراً للأفضل، وانتقاءً للأنسب، ممن يرون فيه أهليةً للقيادة، ويتوسمون فيه الصلاح والأمانة، والصدق والإخلاص والوفاء، والثبات على المبادئ والحفاظ على الثوابت.
على الرئيس الفلسطيني أن يخطو بهذا الاتجاه جاداً لا هازلاً، وصادقاً لا مناوراً، بحزمٍ لا تردد فيه، شرط أن يعلن عزوفه التام عن الرئاسة، وعدم ترشيح نفسه لدورةٍ جديدة، أياً كانت الضغوطات والضرورات، والحاجة والاستثناءات، فلا يستجيب لناصحٍ له بالبقاء، أو طالبٍ منه التريث وعدم الاستعجال في الذهاب، مغلفاً نصحه الخبيث أو الصادق بالمصالح الوطنية والظروف الاستثنائية وصعوبة المرحلة.
كما ينبغي عليه أن يقف على الحياد التام، وألا يبدي دعماً لمرشحٍ بعينه، أو سعياً لوريثٍ من ولده أو نهجه السياسي والتنظيمي، وألا يتدخل في الانتخاباتٍ بأي شكلٍ أو طريقة، وألا يستجيب للقوى وأصحاب النفوذ الذين يسوقون للبعض، ويهيئونهم لمواقع مسؤولة، ومناصب رفيعة، وأن يترك للشعب وحده حرية الاختيار والمفاضلة، ولا يحرمه هذا الحق، فالشعبُ قادرٌ على اختيار الأفضل وانتخاب الأنسب، شرط أن تعقد الانتخابات، وأن تكون نزيهةً، لا يتفق على نتائجها مسبقاً.
لعل الرئيس الفلسطيني إذا خطا بهذا الاتجاه جاداً، فإنه يضع القوى الفلسطينية عند مسؤولياتها الوطنية، ويجبرها على الحوار الجاد، ويدفعها لاستعجال الخطوات، وتنسيق الجهود، وصولاً إلى نتائج مرضية، تنفع الشعب الفلسطيني وتخدمه، وتحفظ قضيته وتصون نضاله، وإنه بخطوته هذه إن آمن بها ونفذها، والتزم بها وعمل من أجلها، فإنه يعجل مختاراً ما قد سيكون عليه مجبراً بعد ذلك، وسيراقب ما سيكون الأمر من بعده وهو حيٌ، في الوقت الذي قد يكسب فيه حب شعبه، وود أبنائه، ويرحل والناس تترحم عليه، وتدعو له، وتسأل الله له الرحمة والمغفرة، فهل يعملها الرئيس أبو مازن، ويضع استقالته على الطاولةِ حلاً لكل إشكال، وإنهاءً لكل انقسام، وبدايةً جادةً لمرحلةٍ جديدة؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية