باسم "الجكر" الذي لا تعليل لوجوده ولا طائل منه سوى القهر، باسم الألم الذي عشش في قلوب "الغلابة" منذ أن قررت قبائل السياسة في فلسطين أن علاقتها مبنية على "الجكر" وأن موجه تصرفاتها هو متاهات المناكفات الضيقة حيث تضيع الفكرة الأنبل وتتهشم الهوية الوطنية الفلسطينية على صخرة المهاترات... باسم كل هذه الأوجاع المركبة، سقط أفق الحرية في فلسطين قبل ثمانية أعوام وولد ما اصطُلح عليه "الانقسام"، من رحم الخطيئة الوطنية الكبرى.
يوم 14 حزيران 2007 لن يمحى من ذاكرة من عاش وجعه وتجرع مرارته. يومها شعر كل فلسطيني لم تتسمم هويته الوطنية بداء عمى القبلية السياسية بوجع اليتم الوطني الذي لم يعوض إلى يومنا هذا. يومها مشى الوطن على جمر النار التي التهمت غزة – عماد الوطنية الفلسطينية – وبكى مئاتَ الشباب الذين قضوا ذبحاً وبتراً وتشويهاً على مذبح مشروع الانفصال عن الوطن والحلم بحريته. يومها، فقد الفلسطيني هيبة المناضل الفدائي الذي لطالما تباهى به وأصبح موسوماً بعار الخطيئة التي ارتكبت بحقه... ومن يومها، سقطت المسيرة الفلسطينية في مستنقع "الجكر" فغاب أفق الحرية ولاح سراب الانفصال، بينما سادت أكذوبة حيادية البعض الفلسطيني في الخصومة التي ألمت ببعضه الآخر. وساد ادعاء حداثة الانقسام وكأنه بدعة مستوردة.
الحقيقة أن 14 حزيران 2007 هو يوم تجلي الانقسام الذي كان حياً في مجتمعنا لأعوام طويلة سبقت تجلياته الدموية تلك. فالانقسام كان واقعنا الذي آثرنا ألا نواجهه، فسكتنا عن حقيقة أن بعضاً من ممثلي الشعب المنتخبين لا يقفون احتراماً للنشيد الوطني، ولا يعترفون بالعلم الوطني، ولا يتفقون مع باقي الوطن في تعريفهم للهوية الوطنية أو حتى أهداف النضال الوطني الممتد لعقودٍ سبقت هذا الانفصام. أما "الجكر"، فكان عاملاً رئيسيا في تجليات الانقسام قبل وبعد هذا التاريخ الأليم.
فباسم الكيد والمناكفة، ادعت كثير من الفصائل الفلسطينية الحياد كاذبة وتلذذت في إصدار البيانات التي تتحدث عن أهمية الوحدة الوطنية بينما كانت في واقع الأمر تعتقد واهمة أنها بهذا الموقف تناكف الفصائل المتناحرة وتحظى هي بحسن الصيت. وباسم الجكر، رسم البعض صورة زائفة للاقتتال الدموي الذي كان يفتك بنسيج مجتمعنا على أنه احتراب بين طرفين ولا علاقة للشعب أو باقي مكوناته به. وباسم الجكر أيضاً، اختار جزء ممن كانوا يحسبون على فتح أن يبقوا على الحياد الزائف بزعم أن الاقتتال يحصل بين حماس وجزء من فتح؛ بينما الحقيقة هي أن هذا الموقف كان توظيفاً رخيصاً وقاصراً لخطر يحدق بالوطن خدمة لخصومة ضيقة داخل الفصيل الواحد.
وهكذا، تم تزييف الحقيقة والتاريخ وخيانة الدم الذي سال والوجع الذي لا زال حياً فينا، لأن كل أطراف معادلة الجكر والمناكفة باتوا ملتزمين بما رسموا من صور وهمية خدمة لهدفهم المناكف. وهكذا تماماً ولد مصطلح "شعب غزة" وتم ترسيخ مفاهيم مريضة تعزز الانقسام والاصطفاف والمناكفة على حساب الوطن والمواطن.
قبل عام، وقعت قبائل السياسة في الوطن اتفاقاً قيل أنه سيحقق المصالحة وعقدت اللقاءات الصحافية والاجتماعات الكرنفالية لتسويق هذا الاتفاق... وكما يقال بالعامية "ويا فرحة ما تمت" – مر عام ولم يتغير شيء على واقع الجكر والمناكفات التي تمزق الوطن سوى أن الأثمان لهذه الحالة المرضية تزداد يوماً بعد يوم حتى وصل الأمر إلى النهش من لحم أبنائنا والتهام أحلامهم بعدما تم القضاء على كل ما سبق ذلك من ركائز المجتمع..
فباسم الجكر، تعلن قيادات حماس أنها تخلت عن الحكومة ولم تتخلى عن الحكم في غزة. وباسم الجكر، تعلن حكومة "الوفاق" أنها مستعدة للعمل في غزة شريطة أن تسمح لها حماس بذلك. وباسم المناكفة، تصدر الفصائل الفلسطينية بيانات تستنكر فيها استمرار الانقسام ومشروع الانفصال وكأن هذه الكارثة تهدد بتمزيق بلد بعيد وليس أحشاء الوطن! وباسم الجكر، تسمح حماس لمجموعات مريبة عرفت عن نفسها بولائها لتنظيم داعش الظلامي، أن تتظاهر وتجاهر بعدائها للغرب ومبادئ الديمقراطية ثم تعقد حماس مؤتمرات صحفية تدعي فيها عدم وجود داعش وتتهم الأجهزة الأمنية الفلسطينية باختلاق هذه الأكاذيب في محاولة منها للنيل من قطاع غزة! وباسم الجكر أيضاً تقوم داعش بإطلاق الصواريخ من غزة على إسرائيل وذلك انتقاماً من حماس على قتل أحد عناصرها وسجن آخرين وذلك حسب البيان الذي أصدرته داعش – التنظيم الذي تدعي حماس عدم وجوده باسم الجكر أيضاً! وبسبب المناكفة يطلق القيادي البارز في حماس، محمود الزهار، اسم "شارع الجكر" على شارع حدودي عبدته كتائب القسام ودعت الناس في احتفالاتها أن يشدوا الأمتعة تحضيراً ليوم التحرير الذي في حينه كان سيمر عن طريق "شارع الجكر"!
وبينما يجاكر البعض بعضهم ويتلذذ البعض في تسجيل المواقف الوهمية بدافع المناكفة وليس تحقيق الصالح العام، يختنق الأمل في فلسطين وتتلاشى معالم مستقبل الحرية والكرامة التي وعدتنا به بيانات فصائلنا الرنانة... الجكر جزء من عنوان الوجع في فلسطين... حالة مرضية لم ينجو منها أحد من لاعبي السياسية فكلهم شركاء في الوجع والدم وكلهم موسومون بضياع البوصلة. هم يناكفون ونحن نغرق في القهر...
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية