يوم السبت الماضي، حضرت مناقشة رسالة الماجستير للأسير البطل زكريا الزبيدي في جامعة بيرزيت . الرسالة كانت بعنوان «الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الفلسطينية من 1968-2018». وبسبب خصوصية المناقش صاحب الرسالة فقد شملت المناقشة تسجيلات صوتية للأسير من داخل الأسر يناقش فيها بعض جوانب رسالته مع مشرفه، كما شملت تسجيلات مصورة له قبل الأسر هي عبارة عن مقاطع من فيلم صور عن حياته بعنوان «الحافة» تحدث فيه عن بعض أفكاره وتصوراته عن الفن والثقافة والمقاومة. إلى جانب ذلك ضمت المناقشة رسالتين من داخل السجن واحدة من الأسير مروان البرغوثي وثانية من الأسير الكاتب وليد دقة بجانب رسالة ثالثة من الكاتب اللبناني الروائي إلياس خوري. وفي المجمل فإن الرسائل الثلاث تعرضت بشكل خاص لتجربة زكريا الزبيدي في المقاومة وفي الدراسة والبحث. وكما ذكر إلياس خوري فإن جزءا مهما من الرسالة ظهر في مجلة «دراسات فلسطينية» قبل فترة وهو الجزء الذي كتبه زكريا في السجن حيث اقتضت الظروف أن يقوم باستكمال كتابة رسالته داخل الزنزانة. وكما ظهر في وسائل الإعلام فإن الزبيدي قبل عملية الحرية المؤقتة عبر نفق جلبوع قد طلب من مشرفه أن يقوم بحذف آخر فقرة في الرسالة والتي أشارت إلى انتهاء الرحلة والمطاردة حيث كان يعرف أن ثمة مرحلة جديدة قادمة بعد أن تنجح عملية الخلاص.
ورغم أن الحرية كانت مؤقتة فإن السطر المعلق في رسالة زكريا الزبيدي ما زال قائماً لأن ثمة استمرارية حتمية للصراع مع المحتل، ولا يمكن للعلاقة بين الصياد والتنين أن تنتهي أو أن تأخذ شكلاً مسالماً إذ إن أساس هذه العلاقة هو الاشتباك. بكلمة أخرى فإن الاقتراح الخفي هنا أن عملية المطاردة لن تنتهي إلا بانتهاء الاحتلال. والأمر كذلك فإن السطر لم يعد معلقاً ولم يعد الأمر عبارة عن نهاية مفتوحة على طريقة الكتاب بل هي اقتراح نضالي وكفاحي بأن النهايات لا يمكن أن تنتهي بوجود خلاص لجدلية المطاردة بل بانتهاء مسببها أي الاحتلال. وهي ذات الأفكار التي يطرحها زكريا في مقاطع الفيديو المصورة والمجتزأة من الفيلم المصنوع عن حياته. فالكفاح والمقاومة بالنسبة لزكريا لا ينتهيان ولا يمكن التسليم بتلك النهاية طالما بقي الاحتلال موجوداً. هذه ليست مجرد أفكار بل هي قناعات بالنسبة للزبيدي، قناعات مارسها وعمل بها رغم كل ما حف ذلك من مخاطر. فزكريا الزبيدي لم يكن منظراً كما لم يكن يبحث عن تقديم أفكار نظرية حتى كما ربما يظن من يقرأه أو يتابعه أو يساجله، وربما لو سمع ما قيل عنه أكاديمياً لشعر ببعض الحرج والغرابة إذ إن الشاب المقاتل لا يبحث عن سطر نظري جديد بل عن تفسير منطقي لتجربة عملية عاشها وخبرها بشكل جيد.
لفت انتباهي ما قدمه زكريا خلال اللقطات المصورة من مداخلات عميقة حول الثقافة والمقاومة. يقول الزبيدي: لا يكون شيء اسمه المقاومة الثقافية، ربما يصلح الحديث عن ثقافة المقاومة لأن المقاومة شيء شامل لا يمكن تجزئته. وعليه فهو يضع نفسه خارج نسق الباحثين عن الشعارات الرنانة من باب أن الثقافة مقاومة أو المقاومة الثقافية. وجود الفلسطيني على هذه الأرض هو مقاومة بشكل عام. كل ما يمارسه الفلسطيني من أجل أن يبقى في البلاد أو يذود عن سرديتها أو حقه فيها هو مقاومة فالمقاومة فعل كفاحي شامل قد يأخذ أكثر من وجه، لكن المؤكد لا يمكن تجزئته. الثقافة أداة للمقاومة وهي جزء منها وعليه، وكان الزبيدي يجيب عن السؤال إذا ما تحول من خلال سعيه للحصول على الشهادة الجامعية إلى المقاومة الثقافية، فإن أي فعل فلسطيني ذاتي أو جماعي يجب أن يكون جزءاً من عملية المقاومة الواجبة على الشعب الفلسطيني. مرة أخرى بالنسبة لزكريا فإن التسليم بأن الذهاب للجامعة يعني توجها آخر وتغييرا في طريقة المقاومة هو إقرار بإمكانية فصل طرق المقاومة المختلفة، وهذا أمر لا يمكن التسليم به. وربما الحالات التي نعرفها فلسطينياً تشير بالشاهد إلى دقة محاولة زكريا التمييز بين البحث عن الشعار والعمل الحقيقي. مثلاً، صحيح أن غسان كان كاتباً لكنه كان فدائياً كذلك كان ماجد أبو شرار. لا يمكن القبول بلعبة الأقنعة المتعددة.
والمتابع لحياة الفدائي الأبرز في فلسطين في الانتفاضة الثانية يدرك كيف كانت الثقافة جزءاً من تكوينه ووعيه وعمله. فالشاب الذي نشأ في مخيم جنين عمل مع رفاق السلاح على إقامة مسرح في المخيم صار مع الوقت المؤسسة المسرحية الأكثر شهرة في شمال الضفة الغربية. أقصد مسرح الحرية. ولعل ثمة الكثير من المقالات حول الشاب الذي آمن بدور الفن إلى جانب البندقية في الدفاع عن الناس وانخرط بجدية مع الراحل جوليانو خميس في إقامة هذا المسرح ثم ما إن تبدلت الظروف حتى عاد لحمل السلاح من أجل الدفاع عن أهله وأبناء شعبه. وفي كل الحالات فإن الأمر لم يكن تفضيلا لوسيلة مقاومة على أخرى بل اختيار الوسيلة الأكثر ملاءمة لكل مرحلة. بهذا فإن عقل زكريا يعمل ضمن النسق الذي ميز حركة التحرر الوطني الفلسطيني وبصفة خاصة تنظيمها الأول الذي اختار زكريا منذ طفولته أن ينتمي إليه. أقصد «فتح». فزكريا لم ينتقل من خيار لآخر حيث إن كل الخيارات كانت دائمة موجودة ومتاحة ويمكن توظيفها لمصلحة الدفاع عن الجماهير وعن القضية. إنه نفس الأمر الذي جعل الزبيدي يتجه للدراسة والالتحاق ببرنامج الماجستير حيث ستواصل قوات الاحتلال مطاردته واختطافه من اجل أن تحرمه من ممارسة هذا الحق.
يوم السبت مرة أخرى، يثبت الزبيدي بأن إرادة الفلسطيني أكبر من كل جبروت الاحتلال.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد