ما حدث من استشهاد شيرين أبو عاقلة، وردّة الفعل الرسمية والشعبية، يعيد بعض النقاش حول نكبة الشعب الفلسطيني وما تلاها. مثل كل الفلسطينيين بكيت وأنا أنظر إلى شيرين أبو عاقلة وهي تموت أمام مرأى ومسمع من العالم، ومثل كل فلسطيني أيضاً كنت أبكي كلما شاهدت الالتفاف الشعبي حول تابوتها وهو في طريقه إلى المقبرة. ما جري لشيرين جريمة مثل كل الجرائم التي يرتكبها الغزاة بحق شعبنا، وهي استمرار لمسلسل تلك الجرائم مثل دير ياسين وقبية وخان يونس وغيرها المئات. وما حدث هو إدانة للمجتمع الدولي بقدر كونه إدانة للاحتلال الذي لا يستطيع هذا المجتمع أن يقول له أكثر من "لا" خجولة بلا تبعات وبلا مواقف. إن مقتل شيرين أبو عاقلة، وهي تقوم بواحدة من أنبل المهن في العالم كصحافية، هو شهادة أخرى من شهادات الوفاة المتراكمة لأخلاق المجتمع الدولي وضميره الميت منذ تمّت سرقة فلسطين من أصحابها وتمكين غزاة أجانب فيها على حساب أهلها. وفاة شيرين هي وفاة جديدة لهذا الضمير وهي إدانة حية ومتجددة للعالم الذي يكيل بمكيالين. فحين يتعلق الأمر بفلسطين فثمة رقابة شديدة على الكلمات وعلى العبارات، وثمة تحفظ وقلق من إثارة خوف الاحتلال الذي لا يجب أن "نحرجه" ولا أن نغضبه حتى لا يتم اتهام العالم باللاسامية. دولة تمتلك الحق في أن تدين العالم، وعالم لا يستطيع أن ينتقد دولة. هذا هو العالم الذي قتلت فيه شيرين بدم بارد.
مشهد استشهاد شيرين استعادة لكل الظلم الذي وقع على شعبنا. كيف يقتل الفلسطيني بدم بارد؟ وكيف يتم إنهاء حياته بقرار مدبّر من قبل الاحتلال وعصاباته؟ هكذا قتل كل أبناء شعبنا منذ تفجيرات العصابات الصهيونية للبيوت العربية في يافا و القدس ، واستهداف المدنين في الشوارع، وبقر بطون الحوامل وقتل الرضّع والشيوخ دون رحمة ولا رأفة، حتى قصف الأحياء والمخيمات والقرى وإعمال كل وسائل القتل الحديثة بحقهم. نفس الطريقة التي أرادت بها العصابات الصهيونية ودولة الاحتلال بعد ذلك تصفية شعبنا. الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، لذا يجب قتل كل فلسطيني. مشهد شيرين تفارق الحياة أمام كاميرات العالم هو نفس مشاهد كثيرة ربما أقربها تبادراً للأذهان مشهد الطفل محمد الدرة وهو يحتمي بوالده من القناص الذي أصر على قتله وظل يحاول ويحاول حتى فعل. نفس المشهد. مشهد الضحية تحتمي من بطش القاتل، ومشهد العالم الصامت المتفرج على الجريمة دون أن ي فتح فمه.
كلنا شعرنا بالألم ونحن ننظر إلى المشهد ونرى كيف يتم قتلنا بدم بارد. منذ أربع وسبعين سنة لم يتوقف القتل بحق شعبنا. ظلت الصهيونية ودولتها تلاحقنا في كل مكان تريد أن تقضي علينا. في كل يوم هناك شهيد وعشرات الجرحى والسجون تتسع يوماً بعد آخر. إن ما حدث مع شيرين وما حدث مع بقية الشهداء ليؤكد الفكرة الأساسية التي يجب ألا تغيب عن بالنا وهي أن النكبة مستمرة. مستمرة ليس لأننا لم نعد بعد، بل لأن فعل "النكبة" ما زال يقع علينا كل يوم، ما زال القاتل يواصل القتل، وما زالت العصابات تأخذ أشكالاً وأسماء مختلفة من أجل تواصل مهمتها في تصفية الفلسطيني وإزاحته من البلاد. النكبة مستمرة لأننا كل يوم نموت، وكل يوم يتم اقتلاع أشجار زيتوننا، وكل يوم يتم هدم بيوتنا ومصادرة أراضينا. النكبة مستمرة لأن القاتل ما زال يستهوي قتلنا. لذلك فإن الوعي بأن النكبة لا تزول إلا بزوال الاحتلال وعودتنا أساس في تطهيرنا من مشاعر الغضب التي تصيبنا ونحن ننظر إلى الصحافية وهي تموت ببساطة.
ولكن تخيلوا كيف حملت شيرين على الأكتاف، وكيف عزف السلام الوطني والموسيقى الجنائزية في وداع رسمي حضرته البلاد كلها، وكيف أن هذا الموت استطاع أن يكون حدثاً كبيراً. ببساطة ما حدث في جنازة شيرين يقول أهم درس من دروس النكبة، وهو أن هذا الشعب لم ينتهِ، وأن النكبة المستمرة لم تحقق أهدافها. وهذا جوهر كل شيء. صحيح أن النكبة مستمرة لكنها لا تحقق أهدافها. رغم كل ما حدث لشعبنا ما زلنا شعباً لنا علمنا ولنا نشيدنا ولنا حلمنا الذي دونه الموت. لم نختفِ ولم نتبخر. ما زلنا في هذه البلاد ومن هو خارجها ما زال يحلم بالعودة لها مهما كلف الثمن.
كان يراد لنا أن نباد بشكل كامل، وأن نفنى ولا يبقى منا أحد، أن يكنسونا كالغبار عن عتبات البيوت. كان يراد للأطفال أن يولدوا بلا ذاكرة. لكن ذاكرة الفلسطيني توّرث كما هويته. كان يراد لنا أن نذوب في المجتمعات التي يتم تهجيرنا إليها. لكن هذا لم يحدث. فالفلسطيني الذي أخرج حافياً جريحاً من بيته لم يزل يقبض على حلم العودة، وهؤلاء اللاجئون الذي هجّروا تحت القصف والقتل ها هم يحملون شهيدتهم، ويعزفون لها سلامهم الوطني، ويحملونها على الأكتاف في جنازة رسمية كما يحمل مع كل أبطال العالم في كل الدول المستقلة والحرة. لذلك فإن النكبة التي قتلت شيرين، كما قتلت مئات آلاف قبلها منذ 74 عاماً، لم تنجح في أن تحقق غايتها الأساسية. يمكن للاحتلال أن يواصل جرائمه، ويمكن للعالم أن يظل صامتاً، ولكن الشيء الوحيد غير الممكن هو أن يتوقف الفلسطيني عن البحث عن فلسطين. استشهدت شيرين وتألمنا وبكينا؛ لأن الفلسطيني يقتل بهذه السهولة ولأن العالم أجبن من أن يقول كلمة حق، ولكن أيضاً شعرنا بفخر كبير من ردّة فعل شعبنا التي تشبه تماماً انبعاثه بعد النكبة من رماد التشرد واللجوء إلى الثورة والغضب من أجل استرداد البلاد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية