على خطى غسان كنفاني، كتبت شيرين أبو عاقلة الرواية الفلسطينية بالدم.لم يكن طاقم "الجزيرة"، الذي تواجد في جنين لتغطية العدوان الإسرائيلي، يحمل سلاحاً نارياً، ولا حتى حجراً، وكان يحمل كل الإشارات التي تدلّ على انتمائه للصحافة، ولفضائية "الجزيرة".
لا يوجد لدى الحكومة الإسرائيلية أي دليل، ولا تستطيع اختراع أي دليل يتهم شيرين وزملاءها بالإرهاب، لكنها تتهم من تسمّيهم الإرهابيين الفلسطينيين بالمسؤولية عن اغتيالها.
مثل هذه الاتهامات ليست جديدة، ولا هي غير متوقعة من أعلى مستويات المسؤولية الأمنية والسياسية في إسرائيل، فهي وبغطاء قضائي يخدم الاحتلال، وجدت دائماً الذرائع للتهرب من مسؤوليتها عن الجرائم التي ترتكبها بحق الفلسطينيين.
ستشكل إسرائيل لجنة تحقيق، وتشكل السلطة الوطنية الفلسطينية لجنة أخرى وتطالب بإجراء تحقيق دولي، ولكن هل ستنجح كل هذه اللجان في تحديد القاتل الحقيقي؟
السفير الأميركي في إسرائيل عبّر عن صدمته، وكذلك البريطاني، وبعثة الاتحاد الأوروبي، وكل ممثلي المؤسسات الأممية في فلسطين، كل هؤلاء وغيرهم عبّروا عن صدمتهم، وإدانتهم، وكرّروا مطالباتهم بالهدوء، وضبط النفس، ولكن لا أحد من هؤلاء ولا الدول التي تدعم إسرائيل وتتواطأ معها، وتساعدها على الإفلات من العقاب، سيفعلون شيئاً سوى الكلام.
دماء شيرين أبو عاقلة تفضح هؤلاء، وتشير على نحوٍ واضح إلى المسؤول الحقيقي عن هذه الجريمة البشعة.
في أحسن الأحوال، ستخرج أو قد تخرج التحقيقات بنتائج تحمّل المسؤولية لأحد الجنود الإسرائيليين، أو للضابط المسؤول، أيضاً، ولكن هل هي هذه الحقيقة؟
ثمانية وأربعون صحافياً وصحافية فلسطينيين جرى اغتيالهم وعشرات آخرون أصيبوا، وآخرون تم اعتقالهم، وكل ذلك خارج القوانين الدولية الضامنة لحماية الصحافيين، فماذا فعل المجتمع الدولي، وهل ارتدعت إسرائيل؟
وفي أحسن الأحوال، أيضاً، قد تنجح السلطة الوطنية الفلسطينية، والمؤسسات الفلسطينية الحقوقية، وربما قناة "الجزيرة"، في تقديم ملف الجريمة إلى الجنائية الدولية، ومنظمات العدالة الدولية، ولكن ماذا بعد ذلك؟
هل ستعجّل الجنائية الدولية التحقيق في ملفات جرائم الحرب الإسرائيلية، التي قدمها الفلسطينيون منذ وقت طويل أم أنها لا تزال منشغلة في التحضير لملاحقة جرائم حرب تقول، إن روسيا ارتكبتها في أوكرانيا؟
يُقال، إن اغتيال شيرين وإصابة زميلها علي سمودي جريمة مكتملة الأركان، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك وحسب.
شيرين ومن قبلها مئات آلاف الشهداء، ومئات آلاف الجرحى ونحو مليون فلسطيني دخلوا السجون الإسرائيلية منذ الاحتلال العام 1967، كل هؤلاء ضحايا نظام احتلالي عنصري، فاشي، إرهابي، لا حدود لعدوانيته، ولا حدود لسياساته التوسعية.
إثر عملية "العاد"، غصّت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، بتحريض إسرائيلي واسع، لممارسة سياسة الاغتيالات فكانت شيرين أول الثمار المرّة لحملة التحريض تلك.
ثمة مجتمع منتج لحكومة تدير شؤونه، وتحقق تطلعاته التوسعية، ينضح بالكراهية، والحقد والرغبة في الانتقام وارتكاب أفظع الجرائم، للاستيلاء على الأرض، وطرد أصحابها الفلسطينيين منها.
بن غفير عضو كنيست، جرى انتخابه، وهو ليس وحيداً في الكنيست ، الذي يحرض على القتل، ويشد على أيدي القتلة، ويبرر بلا خجل، فعل الجريمة، ودون أن يتلقى أي عقاب أو ردعٍ من حكومة تشاطره تطرفه وتغطي عليه، وتضمن له الحماية.
حين يعلن وزير الخارجية الإسرائيلية يائير لابيد، أنه لا يأخذ الإذن من الولايات المتحدة، حتى تقرر حكومته بناء آلاف الوحدات الاستيطانية، وبخلاف الشرعية والقانون الدولي، فإن إسرائيل لا تقيم وزناً لأي إدانات أو تصريحات.
وحين يعلن رئيس الحكومة نفتالي بينيت، أنه سيواصل فعل ما يشاء في القدس دون أي اعتبار لعوامل وتدخلات دولية أو غير دولية فإنه، أيضاً، يعتمد على الحماية الأميركية والغربية وعلى تواطؤ وعجز المجتمع الدولي عن تحقيق العدالة.
هكذا يكون المسؤول عن الجريمة، ليس فقط الجندي أو الضابط المنفّذ لفعل الاغتيال، وإنما هي مسؤولية دولة ونظام سياسي، ومجتمع بأسره تقريباً لا يرى قيمة للدم الفلسطيني ولا لحقوق الشعب الفلسطيني.
شيرين ألقت بحجرٍ كبيرٍ في المياه الراكدة والآسنة، التي تميز دور وسياسات ومواقف المجتمع الدولي، الذي لا يخجل من ممارسة سياسة المعايير المزدوجة، التي ترى احتلالاً مبرراً ونظيفاً في فلسطين، واحتلالاً خطيراً ومخالفاً للقانون الدولي ويستحق مرتكبوه أقسى وأقصى العقوبات.
اغتيال شيرين هو اغتيال للحقوق واغتيال للقيم الإنسانية، واغتيال لنظام دولي ظالم، لا يكفّ عن حماية المجرم، ما يشجعه على مواصلة ارتكاب جرائمه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية