للصحافة قدسيتها واحترامها وقد فرضت هذا القدر من الاحترام بسبب حياديتها وتعاليها على نزعات السياسة، ولها دورها في خدمة الرأي العام.
لذا في الدول المتقدمة يفرضون ضريبة على التليفزيون كي يتم تمويله من الجمهور وليس من الحكومات أو الأحزاب أو رؤوس الأموال حفاظاً على حيادية تتطلبها هذه المهنة، وإلا فإنها ستخرج عن رسالتها وتبتعد عن الدور المناط بها.
الصحافة ليست جزءًا من الأدوات التنفيذية، وينحصر دورها في إعطاء المعلومة أو المعرفة إما كخبر أو تحليل أو تحقيق لمواطن تقدم له هذه المعلومة ليعرف ما يدور حوله ويدفع مقابلها.
لكن حين يتحول الصحافي إلى قيادي ويصادر دور الآخرين والأخطر أن يتحول إلى محرض على القتل فهذا ليس فقط خروجاً عن المهنة بل هو خروج على إنسانية تفرضها طبيعة هذه المهنة ويعرفها دارسو الصحافة كعلم في إسرائيل.
ومع نهاية الأسبوع الماضي كان خروج الصحافيين الإسرائيليين عن كل قواعد المهنة لافتاً، إذ ألقوا بكل تلك القواعد والمبادئ جانباً وظهروا كمن يرتدون البزات العسكرية أو انتحلوا دور جنرالات الجيوش في حالة انكشاف نادرة لمن يقدمون أنفسهم باعتبارهم مهنيين أكثر من غيرهم على مستوى العالم.
الأسبوع الماضي ألقى قائد حماس في قطاع غزة يحيى السنوار خطاباً انفعالياً عندما كانت الحكومة الإسرائيلية تسمح لمجموعات يمينية بالدخول لباحات الأقصى.
وتدرك إسرائيل ارتباطاً بالتجربة أن ثلاث حروب اندلعت بسبب الأقصى: حرب النفق والانتفاضة الثانية وحرب أيار الماضي، وتعرف أن الأمر سيجر المنطقة نحو التصعيد، بصرف النظر عما جاء في كلمة الرجل وخروجه على الخطاب الفلسطيني المعتاد وحتى خطاب حركته في استهداف الكنس في الخارج وهو ما لا يتفق معه معظم الفلسطينيين.
جاء الانفجار في إلعاد ارتباطاً بالصور التي تبثها الفضائيات عن المجموعات التي دخلت للمكان المقدس للمسلمين، لا ارتباطاً بخطاب السنوار.
وقد يكون مفهوماً تهديدات قادة الأمن وتحريض أعضاء الكنيست وقادة الأحزاب، لكن انفجار الصحافيين ومطالبتهم بالقتل والاغتيال ما يستدعي التوقف أمامه لأن هذا ليس دورهم ولا متطلبات المهنة بل هو امتهان لها وتحقيرها واستخدام منابرها للقفز بين السياسيين ورجال الأمن وصناعة شهرة باستغلال مناخ ما فرضته طبيعة الأحداث.
الصحافي المخضرم بن كاسبيت يكتب في جريدة معاريف مقالاً يقول فيه: «حان الوقت لإدخال يحيى السنوار في دائرة الدماء» ...! أما زميله الكاتب في نفس الصحيفة شمعون شيفر فيكتب عنواناً لمقاله «إسرائيل ملزمة بتصفية السنوار» أما المراسل العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت والذي تقتصر وظيفته على نقل أحداث الصراعات فقد كتب «لكل حريق عود ثقاب يشعله لكن ليس العود هو الملام بل اليد التي تشعل العود وتقربه من المواد القابلة للاحتراق، العام 2001 كان ياسر عرفات هو من أشعل العود وبعد عشرين عاماً فعل يحيى السنوار الشيء نفسه» والمعنى أن الحل كان باغتيال عرفات.
الصحافي أور هيلار وخروجاً على تقاليد المهنة ظهر على قناة الجزيرة الفضائية في لقاء مع الصحافي محمد كريشان يشتم السنوار ويهدده بالقتل، أما الصحافي أمير بوحبوط فيكتب «إن تزايد العمليات يلزم اتخاذ موقف مختلف وواضح عما تم اتخاذه حتى الآن من أجل وقف عمليات التقليد، يجب اتخاذ قرارات الرد على الهجوم الدامي في إلعاد»، وبالتأكيد لا يقصد قرارات سياسية أو مفاوضات بل قرارات قتل وإعدام.
يوني بن مناحيم الصحافي المعروف للفلسطينيين كمحلل غالباً يخفي موقفه خلف التحليل، هذه المرة كان مباشراً حيث كتب «آن الأوان لتجديد سياسة الاغتيالات ضد يحيى السنوار ورئيس الجناح العسكري لحركة حماس في الضفة صالح العاروري»، ورغم أن بن مناحيم من جيل الصحافيين الذي رافق عملية التسوية وانهيارها ويعرف تفاصيل الصراع وأن حل المسألة بين الفلسطينيين والإسرائيليين له مسار واضح ومحدد لكنه هذه المرة تحول إلى محرض بشكل مباشر وهو أكثر من يعرف أن الاغتيالات في صفوف الفلسطينيين لم تقدم حلاً لهذا الصراع سوى صب مزيد من الزيت على ناره المستعرة.
لقد كتب شمعون شيفر في مقاله عن الرسالة التي كشفتها صحيفة يديعوت أحرونوت والتي أرسلها قائد حماس بغزة يحيى السنوار ل بنيامين نتنياهو والتي تحققت إثرها كما يقول شيفر تسويات إقليمية، عندما كتب السنوار بالعبرية لنتنياهو «خذ مخاطرة محسوبة» بمعنى أن الرجل لديه استعداد للتوصل لتسويات وأن المشكلة ليست في الرجل بل في المناخات المتطرفة التي صنعتها إسرائيل وهي التي جرّت الأحداث إلى هذا المستوى ليس بقرار من أحد ولا بتحريض من أحد.
وقد بدأت الأزمة عندما اغتالت في الثامن من الشهر الماضي ثلاثة من عناصر حركة فتح في نابلس ولم تنتهِ بالمشهد المستفز للفلسطينيين في القدس .
ولم يكن باقي الصحافيين في إسرائيل بعيداً عن زملائهم ما كتبه أساف جابور على تويتر ويرون سنايدر وجاكي خوجي وتل رام ليقف والموغ بيكر وآخرون تجندوا جميعاً لنفس الهدف، وفي هذا ما لا يمكن قبوله مهنياً ولا إنسانياً باعتبار أن مهنة الصحافة هي مهنة إنسانية بالدرجة الأولى وبصرف النظر عن آلام الصراع وأطرافه لكن دور الصحافة هو الحد من الدم والدعوة للسلم الدولي وليس التحريض على العنف.
كل ما صدر نهاية الأسبوع يفرض على نقابة الصحافيين الفلسطينيين جمعه في ملف وتقديمه للاتحاد الدولي للصحافيين من انحراف مهني لم يقتصر على التحريض على القتل كما فعل إيهود إيعاري وهو يملي على الحكومة كيف تتعامل مع السلطة ورئيسها الذين لا علاقة لهم بالأمر، أظن أن نقيب الصحافيين الزميل ناصر أبو بكر ستكون لديه مادة مهمة إذا ما طلب من الصحافيين العاملين في الحقل الإسرائيلي ومركز مدار، وأطلس للدراسات الإسرائيلية جمع كل دعوات القتل التي أطلقها الصحافيون وتقديم شكوى...!!!!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية