تظل الانتفاضة الأولى علامة فارقة في الخبرة الكفاحية الفلسطينية لما أحدثته من تحول مهم في طبيعة الاشتباك مع الاحتلال كما في تعاطي العالم مع هذا الاشتباك.
وبجانب لحظات تاريخية قليلة فإن ذكرى الانتفاضة تعود دائماً مصحوبة بحنين من نوع خاص، يمكن لمن يغرق فيه أن يشعر بالأسى والإحباط من مآلات المصير واللحظة.
وهي مقارنة غير عادلة مع هذا، لكنها تحدث مثل الكثير في الحياة.
ثمة طابع خاص اتسمت به هذه الانتفاضة وثمة ذكريات أكثر خصوصية ارتبطت بها، ذات علاقة ليس بممارسات الأفراد بل بحقيقة كون هذه الانتفاضة فعلاً جماعياً بامتياز.
صحيح أن كل فرد يتذكر الشيء الخاص به من هذه الانتفاضة: مواقف، أحداثاً، مفارقات، ربما مشاركة خاصة، أي شيء، وصحيح أن ثمة الكثير الذي يمكن للحيز الخاص أن يجد مكانه فيه، لكن الأهم أن ثمة ذاكرة جماعية عن بطولة جماعية اتسمت بوعي الناس بشيء من الخصوصية.
هذه الخصوصية ترتكز على فعل خارق. هكذا يتم التفكير بالأمر. فسمة الانتفاضة الأساسية هي تلك المشاركة الواسعة والانخراط الكبير في أحداثها بحيث باتت حدثاً يومياً اعتيادياً يمارسه الناس كل يوم.
وفي كل يوم يكلفهم الكثير من الألم والعذابات لكنهم مع هذا يواصلون الانخراط فيه بهمة وبمعنويات عالية. هكذا فإن الانتفاضة فعل له سماته الخاصة كما أنه فعل خاص لكل فرد بوصفه جزءاً من الجماعة.
هل كان ثمة إحساس وقتها بأن الخلاص جماعي؟ يبدو السؤال مخادعاً لأن الإجابة عنه ستشير إلى التحولات بين ذلك الزمن وزمننا الحالي. من المؤكد أن شعور الأفراد بالحاجة للجماعة شعور فطري، وربما هو أساس الثورات الحقيقية، وأساس خروج الأفراد في انتفاضات وهبات من أجل تغيير واقعهم.
البشر بطبعهم يتألفون ويشعرون بضرورة التجاوز حتى يتجنبوا المخاطر الخارجية.
هكذا تشكلت الجماعات عبر التاريخ، وهكذا تحولت تلك الجماعات إلى تكوينات اجتماعية واسعة ومن ثم تكاتفت من أجل حماية وجودها في تكوينات سياسية مختلفة تطورت بشكلها الأسمى عبر الدولة الوطنية القائمة على تعاقد أفرادها من أجل خير الجميع.
هكذا يمكن اختصار تاريخ الجماعات والدول. والمحقق أن الخلاص الجماعي هو أسمى وأكثر أمناً.
الانتفاضة كانت تشكل حالة مهمة من هذا الخلاص. يمكن سرد مئات بل وآلاف القصص حول تضامن الأفراد فيما بينهم من أجل تحمل الألم مجتمعين ومن أجل التخفيف عن بعضهم البعض.
كان ثمة إيمان بأن الفرد لا ينجو وحده، وأن النجاة يجب أن تتحقق للجميع، ودون التكاتف والتعاضد فإن الفرد لا يمكن أن يجد الخلاص فيما يتعذب الآخرون.
هكذا كان الحال في الانتفاضة الأولى. ثمة قصص عن توزيع الطعام وأخرى عن كسر منع التجوال من أجل إدخال المساعدات، وثمة قصص أخرى عن أشكال متنوعة من التعاضد في مواجهة الجيش حين يقتحم الحارات والأحياء في المدن.
وهناك من يحب أن يتذكر المسيرات الضخمة التي كان الكل ينصهر فيها بصرف النظر عن التنظيم أو الحزب أو الانتماء الفكري.
كان ثمة حالة واحدة لا يمكن تجزئتها. كان هناك تنظيمات وكان هناك أحزاب وكان هناك مشارب فكرية. لكن الأهم من كل ذلك أنه كان هناك شعور بوحدة الحال والمصير والهدف وطريقة إنجاز هذا الهدف.
لم يعن هذا أن الأمر كان خالياً من الشوائب، لكن السياق العام كان يتسم بهذه الهارمونيا التي جعلت من الإصرار على الخلاص العام أفضل من البحث عن الخلاص الحزبي أو الفردي.
مع اختلاف البرامج فإن الانتفاضة ظلت الطريق الأكثر شيوعاً رغم كل التباينات.
هل أن الخلاص الفردي لم يكن موجوداً. طبعاً البحث عن النجاة فطرة بشرية أيضاً. والأنانية موجودة في البشر دائماً، لكنّ ثمة ميزاناً يفرق بين النجاة التي تكون الحل الدائم والنموذج الأفضل وبين النجاة التي تكون جزءاً من الحالة العامة.
هكذا كانت الانتفاضة صورة مشرقة عن خبرة إنسانية متجذرة في العمق، وربما أن فرادتها تأتي في أنها أعادت الاعتبار للكثير من القيم والمثل الإنسانية والحياتية التي احترقت في لهيب التفاصيل العادية. لذلك ظلت الانتفاضة حالة تضامنية حتى اللحظة حتى على صعيد التذكر. إنه التذكر الذي يكون مصحوباً بشيء من الألم حين تتم مقارنة الماضي بالحاضر وحين تتم مقارنة الواقع بما كانت عليه الأمور.
وربما علينا الانتباه أن بعض المقارنات ظالمة لأنها تنزع السياق والتحولات التي لا يمكن إغماض العين عنها حين نتفكر في العقود الثلاثة ونصف العقد التي مرت منذ استشهاد الفتى حاتم السيسي في مخيم جباليا.
يحب الناس أن تتذكر كيف بات الخلاص الفردي الآن هو النموذج الأسمى. مثلاً التحول من الإضرابات الجماعية إلى الإضراب الفردي والانتقال من العمليات الحزبية المنظمة إلى العمليات الفردية الارتجالية المربوطة بالسياق اللحظي أو حجم المسيرة التي كانت تربو على الآلاف بالمسيرات التي تعد بالمئات أو ربما مقارنة المسيرات الجامعة التي لا يرفع فيها إلا علم فلسطين بالمسيرات التي لا يرفع فيها علم فلسطين ويتم الاكتفاء بعلم الحزب أو الحركة في بشاعة مرعبة.
الحالة العربية أيضاً تبدو مشابهة. فالتضامن العربي انتهى للأسف وباتت كل دولة تبحث عن مصيرها وعن علاقاتها ولا يوجد الآن شيء يربط الدول العربية أكثر من اللغة والتاريخ؛ فلا مصير مشتركا ولا أهداف موحدة ولا قضية واحدة.
وربما الاستفاضة بالحالة العربية تصيب المرء بالمزيد من الإحباط والقلق لأن المستقبل يبدو أكثر قتامة وقد يصل الوقت الذي يصار فيه إلى وقف الحالة العربية وتغييب مؤسساتها.
ومع ذلك تصلح ذكرى الانتفاضة الأولى في تذكر أن ثمة لحظات خالدة سيظل مرورها يمطرنا ببعض الأمل رغم حلكة الليل.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد