يخطئ القائمون على السياسات الاقتصادية في بلادنا إن اعتقدوا أن موجة الغلاء الحالية ستمر مرور الكرام كغيرها من الموجات السابقة، وأن المواطنين والمواطنات «يتفهّمون»، أو أنهم سيتفهمون الواقع في ظل الحصار المالي الذي يتعرض له المجتمع الفلسطيني، وفي ظل الحصار الذي يمارسه الاحتلال على الضفة والقطاع، وفي ظل سياسة «التقطير» التي تمارسها البلدان الغربية، وفي ظل «تشحيح» الدعم العربي وتجفيف الموارد والمساعدات التي كانت تقدمها هذه البلدان لدعم الاقتصاد الفلسطيني... إذا اعتقد هؤلاء والقائمون على هذه السياسة في بلادنا أن موجة الغلاء الحالية لن تحدث خلخلة خطيرة في الواقع السياسي والاجتماعي في فلسطين فإنهم على خطأ كبير، بل أستطيع القول دون أن أجد نفسي أغامر بالوقوع في المغالاة أو سوء التقدير إنهم يوقعون أنفسهم في أوهام متخيلة، ليس لها أي أسانيد واقعية، كما أنهم يغامرون بإيقاع المجتمع الفلسطيني كله، ويعرضونه ـ بوعي أو بغير وعي ـ في مطبات خطرة في مرحلة فاصلة وحساسة، تخطط فيها إسرائيل للنيل من تماسك هذا المجتمع، وتحاول تفتيت وحدته، وتشتيت كل مقومات صموده وقدرته على المواجهة.

موجة الغلاء الراهنة يصعب «التعايش» معها، لأن المسألة لم تعد مسألة «تفهّم سياسي» بقدر ما هي في الواقع صعوبات اقتصادية لدى المجتمع هي أقرب إلى حالة الاختناق المعيشي.

سطوة الاقتصاد الإسرائيلي على معظم مقدراتنا وثرواتنا ومفاصل الاقتصاد الوطني لدينا، إضافة إلى السرقة والنهب المنظم لكل ثرواتنا تعود بالأساس إلى عوامل معروفة لدينا جميعا حول نظام السيطرة والتحكم الإسرائيلي بنا. لكن غير المعروف على نطاق واسع، أو غير الواضح بصورة ملموسة، ومن خلال أي آليات تحديداً يتم إلحاق الأذى والضرر يعود إلى واقع جوهره هو التالي:

نحن (أقصد غالبية الناس) نستهلك بالأسعار الإسرائيلية تقريباً، في حين أن دخل الفرد، وبالتالي مستوى معيشته هو دخل منخفض عن دخل الفرد في إسرائيل بأضعاف مضاعفة. هذا الظلم والإجحاف يكاد يكون فريداً، إن لم نقل إنه يكاد يكون الوحيد عالمياً، وليس بحدود علمنا له مثيل، وهو أشبه بنظام العبودية الاقتصادية.

الحيّز، أو المنطقة أو الغلاف الجمركي «الواحد» بين إسرائيل وفلسطين ـ حسب اتفاقيات باريس الاقتصادية ـ يعطي لهذا النظام العبودي، أو شبه العبودي المبررات والمسوغات التي تحول المجتمع الفلسطيني إلى رهينة اقتصادية تقوض من قدرته على التنمية، بل وعلى النمو أيضاً، وتبقي الاقتصاد الوطني حبيس هذا «الغلاف»، وتبقي آليات احتجاز التنمية في أيدي إسرائيل.

وليت أن الأمر يتوقف عند هذا الحدّ، وهو حدّ مدمر على كل حال، لأن السياسات الاقتصادية الفلسطينية، المحكومة لفلسفة (اقتصاد السوق) ليس لديها في الواقع حول ولا قوة، ولا تملك الأدوات الاقتصادية والمالية لكبح آليات التحكم الإسرائيلي، ولا لردع كبريات الشركات الفلسطينية (القابضة والمتحكمة بالتوريد والتصدير) حتى ولو توفرت النية لهذا الكبح والردع.

الإمكانية الفعلية والحقيقية التي تمتلكها الجهات الفلسطينية الرسمية للتصدي لهذا الواقع، والذي يولد الأزمات تلو الأزمات، والذي ي فتح المجال واسعاً أمام موجات الغلاء المتلاحقة، والتي وصلت إلى حدود «الانفلات» هي كسر حلقة اتفاقيات باريس، وتعديل كامل مسار السياسات الاقتصادية وفلسفتها، والانتقال المنظم والتدريجي من اقتصاد السوق «الحر» إلى اقتصاد السوق «المقيّد»، على طريق إحداث تحولات حقيقية نحو سمات رئيسة، ومفصلية للاقتصاد الاجتماعي.

السمات العامة للاقتصاد الاجتماعي والمطبّق جزئياً في بعض البلدان ومنها الاسكندنافية وألمانيا هو الاقتصاد الذي تلعب فيه الدولة دوراً محورياً في التحكم بحلقة التوزيع للدخل القومي. أي التي تربط ما بين النمو الاقتصادي وما بين منظومات الحماية الاجتماعية في القطاعات الاجتماعية الرئيسة، وخصوصاً في مجالات وقطاعات العمل والصحة والتعليم، باعتبار أن نتائج هذه الحماية هي جزء من الدخل غير المباشر للمواطنين.

دعونا نأخذ مثالاً على ذلك.

لو افترضنا أن أرباح الشركات الكبرى لدينا تحقق أرباحا صافية تقدر بمليار دولار، وأن هذه الأرباح تزداد بنسبة 10% سنوياً، وأن هذه الشركات بسبب أزمة « كورونا » لم تحقق سوى معدلات الأرباح التي كانت سائدة قبل الجائحة، فهل أن هذه الشركات في الواقع أصبحت تراكم الخسائر أم أنها ما زالت في الواقع تراكم الأرباح؟

 الجواب: هي ما زالت تراكم الأرباح، وهي إن حاولت ـ وهي تحاول بكل إصرار ـ أن تعود لمعدلات الأرباح بنفس معدلات الارتفاع (أي 10% سنوياً) فليس لديها من وسيلة سوى جيب المواطن والمواطنة. في حالة (الاقتصاد الاجتماعي) لا تسمح الدولة إلا في ظروف قاهرة بأن يتم المس بالمستوى المعيشي للسكان، وهي لديها من «الموارد ما يكفي لسد الثغرات والتعويض عنها.

أما في حالة أوضاعنا القائمة فليس لدينا القدرة على إعادة توزيع الدخل القومي وفق منظور الاقتصاد الاجتماعي، وليس لدينا القوانين التي تسمح بذلك، وليس لدينا لا الأدوات والآليات الاقتصادية، ولا الإرادة السياسية الكافية لذلك، لأن الإرادة السياسية هنا تعني الردع، كل الإجراءات التي يمكن أن نلجأ لها لن تحل مشكلة انفلات الأسعار، وحتى لو نجحنا اليوم (جزئياً) في اتخاذ بعض التدابير المؤقتة فإننا سنعجز في المرة أو المرات القادمة.

الشركات الكبرى لدينا بسبب «مكانتها» الاقتصادية، وهذه المكانة في الواقع لها أبعاد احتكارية، وبسبب «عزوتها» السياسية والاجتماعية ليست على استعداد لتقاسم أعباء الصعوبات الاقتصادية والمعيشية للمواطنين، وذلك بوساطة «الاكتفاء» بأرباح أقل، وبحدود دنيا لكي تحافظ على وحدة وتماسك المجتمع، ولكي تحافظ على استمرار القدرة الشرائية لأفراد المجتمع، ويا للمفارقة هنا لأن انخفاض القدرة الشرائية للمجتمع سيقلل من أرباح هذه الشركات، ولا يعود أمامها سوى رفع الأسعار مرة تلو الأخرى لتعويض أرباحها عن طريق فارق الأسعار بصرف النظر عن خروج أعداد متتالية من أفراد المجتمع من سوق الاستهلاك، أي أننا سندخل هنا في حلقة جهنمية للأسعار.

لا يمكن أن نحافظ على وحدة وتماسك المجتمع وصموده أو بقائه على أرض وطنه متشبثاً بترابه ومدافعاً عنه دون أن نعي بعمق حاجتنا إلى تغيير مسارنا على جهتين:
الأولى، مسار التسلط والتحكم الإسرائيلي باقتصادنا الوطني، ومسار السياسات الاقتصادية، والفلسفة الاقتصادية التي تقوم عليها هذه السياسات.

والمسؤولية عن تعديل كامل هذا المسار ليست مسؤولية الحكومة فقط (أي حكومة)، وإنما هي مسؤولية الرئاسة، ومسؤولية المنظمة، ومسؤولية كل فصائل العمل الوطني الفلسطيني دون أي استثناء.

وإذا توفرت الإرادة السياسية فالوقت لم يفت بعد. لا يوجد هدف أسمى من هدف التحرر من الاحتلال سوى هدف المحافظة على صمود المجتمع، ولا يمكن أن يكون لكل المؤسسات الوطنية من مسؤولية أهم من هذه المسؤولية، ولا يوجد مبرر واحد لبقاء كل الفصائل متربعة في مقاعدها إذا كان صمود الفلسطيني على أرضه في هذه الظروف بالذات ليس هو مسؤوليتها المباشرة واليومية.

المجتمع الفلسطيني الذي بات يئنّ من سياط التجويع والإفقار المذل في القطاع، ومن الاختناق المعيشي في الضفة، ومن المطاردة «الساخنة» لكل الشجر والحجر في القدس ، حتى وصلت الأمور إلى المقابر، لم يعد يؤمن، أو هو لن يبتلع المزيد من الشعارات الوطنجية الجوفاء، ولا الادعاءات «المقاومجية» التي اهترأت وتنخلت وافتضح الكثير من مفاصلها وخباياها.

المجتمع الفلسطيني يريد أن يرى ويلمس مسارات جديدة وجادة، ويريد أن يرى ويلمس تغيرات حقيقية على الأرض، وليس فقط في وسائل الإعلام أو على المنابر.

عند أول بادرة جادة من ذلك كله سيفهم أولو الأمر في بلادنا كم أن شعبنا عظيم، وكم هو مستعد للتضحية، شريطة أن لا تقتصر هذه التضحية على الفقراء منه، وشريطة أن يشعر ويلمس أن الجميع يشارك بها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد