بعد أن استقبلت العاصمة المصرية القاهرة قبل نحو أسبوع وفد الجبهة الشعبية، ها هي تستقبل وفد حركة حماس ، دون أن يتم الإفصاح عما جرى تداوله أو الاتفاق عليه، أي أن اللقاءات - التي على الأرجح أن تتابع مع وفود فلسطينية أخرى، تمثل الجهاد و/أو الجبهة الديمقراطية، وغيرهما - تجري في إطار من الكتمان، وفقط يجري الإعلان عنها دون التفاصيل، وحيث إن القاهرة لم تستقبل فقط وفد حماس، ولا ممثلي حماس والجهاد، مثلا فقط، فإن ذلك يعني أن ما يشغل بال القاهرة، هو أبعد من صفقة تبادل الأسرى، وحتى أبعد من تثبيت الهدوء على جبهة قطاع غزة .
في حقيقة الأمر أن القاهرة ومنذ توقيع اتفاق إعلان المبادئ في حديقة البيت الأبيض الأميركي في أيلول 1993، وهي تقوم بدور رئيس في عملية السلام الإقليمي مع إسرائيل، خاصة تلك العملية التي تجعل من فلسطين محورها، والقاهرة كما هو حال رام الله تدرك أن ما تحقق في إسرائيل، من إسقاط لحكومة اليمين برئاسة بنيامين نتنياهو ، لم يكن إلا نصف الطريق نحو إعادة الأمور إلى نصابها، أو إلى ما كانت عليه قبل أن ينجح اليمين الذي عارض اتفاقية السلام قبل ثلاثة عقود في وضع حد لها، لذا فإن ملء النصف الفارغ من الكأس بحاجة إلى كفاح وعمل إضافي، يبدو أنه بات على عاتق الجانب العربي، وبالتحديد محور القاهرة - رام الله - عمان، ذلك أن الحكومة الإسرائيلية الحالية نصفها يميني معادٍ للعملية السياسية، ونصفها خليط وسطي وأمني، فيما بعضها يساري كان شريكا للرئيس محمود عباس في عقد تلك الاتفاقية، حين كان شركاؤه على الجانب الإسرائيلي بالذات ما زالوا على قيد الحياة.
ولأن المواقف خاصة في كل من تل أبيب وواشنطن هي بين بين، فلا بد من ضغط عربي وفلسطيني لزيادة سرعة عجلة التحرك التي ما زالت تتحرك ببطء شديد، وخير دليل هو أن الجانب الأميركي يحبذ حالياً أن يمنح الجانب الفلسطيني حلو الكلام، فيما لا يقوم بترجمة ما قاله أو يقوله إلى واقع، حتى لا يؤثر أولاً على التحالف البرلماني الهش للحكومة الإسرائيلية، وثانياً على العلاقة الخاصة بين البلدين، ويبدو أن الصفقة قد عقدت بين الجانبين، خلال زيارة رئيس حكومة إسرائيل نفتالي بينيت لواشنطن مؤخراً، على أساس أن تراجع إسرائيل موقفها الرافض بشكل حاد لعودة الولايات المتحدة للعمل بالاتفاق النووي مع إيران، مقابل أن لا تقوم واشنطن بترجمة مواقفها المعلنة تجاه المسألة الفلسطينية إلى وقائع، خاصة تلك المتعلقة بإعادة فتح القنصلية ب القدس الشرقية، حيث حددت واشنطن أيلول الماضي كموعد لذلك ولم تفعل، كذلك عدم الانخراط في عملية دفع العملية السياسية، بهدف إجراء مفاوضات، على أساس حل الدولتين، كذلك عدم الاعتراض جدياً على الاستيطان، وحتى عدم الذهاب بعيداً فيما يخص إخلاء العائلات من أحياء القدس.
الضغط العربي يتمثل في متابعة القاهرة لإجراء الحوارات في أكثر من اتجاه، وتحديداً المسار الداخلي الفلسطيني، ثم من خلال توجيه الدعوة لنفتالي بينيت، فيما استقبلت عمان وإن بشكل سري أكثر من مسؤول إسرائيلي، فيما اقتحمت رام الله جدار الصد الإسرائيلي عبر توجيه الرئيس محمود عباس لوزراء اليسار في الحكومة الإسرائيلية الدعوة للقائه في رام الله.
بالطبع ما كان يمكن لبينيت أن يمنع وزيري ميرتس من لقاء الرئيس عباس، وقد سبقهما من قبل بيني غانتس ، الذي جبن لاحقاً، خاصة بعد أن تسربت اتصالاته مع بنيامين نتنياهو، بهدف إسقاط حكومة بينيت - لابيد، وتنصيب غانتس رئيساً لحكومة يتحالف فيها مع نتنياهو، وهذه الخطوة الفلسطينية، هي في حقيقة الأمر تأتي في سياق ما يمكن وصفه بهجوم السلام الفلسطيني والعربي على إسرائيل، بهدف دفعها لمغادرة مربع اليمين الرافض للعملية السياسية، وهي محاولة لفرض السلام مجدداً على رافضيه من قبل الرجل الوحيد الذي بقي على قيد الحياة بعد وفاة شركائه الثلاثة، إسحق رابين المغتال من قبل يميني إسرائيلي، بتحريض من اليمين الإسرائيلي العام 1995، وياسر عرفات الذي استشهد مسموماً بفعل فاعل هو حكومة اليمين الإسرائيلي، وشمعون بيريس الذي قتله اليمين سياسياً، بعد أن هزمه أكثر من مرة في الميدان السياسي.
في حقيقة الأمر، لوحظ أن أعضاء العمل وميرتس في الحكومة الحالية وخلال الأشهر الأربعة الماضية التي مضت على تشكيلها، لم يتخذوا موقفاً واضحاً، تجاه العملية السياسية، رغم أنهما الشريك التاريخي في اتفاق السلام مع الجانب الفلسطيني، وكأنهما ما زالا تحت تأثير واقع الصدمة، حيث توالت هزائم اليسار حتى كاد بحزبيه العمل وميرتس اللذين شكلا حكومة أغلبية بشبكة أمان عربية العام 1992، ذهبت إلى أوسلو بشجاعة، أن يتلاشيا، هذا لأنهما سلما ببرنامج اليمين السياسي، وهكذا يمكن عمليا اعتبار دعوة الرئيس لهما للقائه في رام الله، فتحا للباب لهما ليتقدما على خشبة المسرح السياسي الإسرائيلي مجددا، فيما الخطوة تعتبر إضعافا لموقف بينيت الرافض لقاء الرئيس، لما يعنيه من اعتراف إسرائيلي بالشريك الفلسطيني، ومن ضرورة التوصل للحل السياسي، عكسا لكل محاولات اليمين، تنحية الحل السياسي بتقديم حلول من قبيل الأمن مقابل الغذاء، والاقتصاد مقابل الأمن، السلام الاقتصادي، وما إلى ذلك.
ها هم وزراء من حكومة نفتالي بينيت نفسه، يلتقون الرئيس الفلسطيني، ولم يقتصر الأمر على زيارة عابرة، أو خاطفة قام بها بيني غانتس، ومن ثم تبرأ منها، فكيف يمكن لبينيت بعد ذلك الاستمرار في رفض لقاء الرئيس، أو إقناع العالم بما فيه الأميركيون، بإغلاق باب التفاوض، رغم الحجج الجاهزة من قبيل الانقسام الفلسطيني، أو هشاشة الائتلاف الحاكم الإسرائيلي، ولأن السياسة هي محصلة ضغوط متعارضة، فإن موقف بينيت نفسه، فضلاً عن أن الموقف الأميركي لن يبقى كما هو بعد لقاء الرئيس وزيري ميرتس، المهم إذاً أن يتواصل الضغط، ذلك أن ما سبق للرئيس وأعلنه في خطابه في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بأن هناك مدة عام وحيد لإنقاذ حل الدولتين، مرتبط أيضاً بشخص الرئيس الذي هو عراب السلام الذي تبقى على خشبة المسرح السياسي، كذلك فإنه لا يوجد فلسطيني آخر أقدر منه على صنع السلام، هذا لو أن إسرائيل تريد السلام حقاً، ولا ترى فيه مرادفاً للاستسلام، الذي ما زالت تعتقد بإمكانية تحقيقه فيما بعد الرئيس محمود عباس.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية