يتواصل الزخم الشعبي مع قضية أسرى نفق الحرية حتى بعد أن أعيد اعتقالهم جميعاً، في إشارة حقيقية إلى أن الانتصار الذي تم إنجازه تمثل في إعادة تسليط الضوء على واحدة من قضايا الكفاح الوطني المستمرة، والمتمثلة في قضية الأسرى. فرغم كل شيء معركة الأسرى مستمرة. لم تفقد قضية اعتقال الاحتلال منذ عقود من الزمن لآلاف الرجال والنساء والأطفال وحتى الرضع زخمها وحضورها في الإسناد الشعبي العام، ولا في الموقف الرسمي والفصائلي، بل ظلت دائمة الحضور والتفاعل، وكانت وقتاً وآخر تكتسب زخماً جديداً بفعل بعض التطورات والتحولات التي تسلط الضوء عليها وتعيدها إلى واجهة الاهتمام العام. بهذا فإن ما جرى في الأسابيع الثلاثة الأخيرة أعاد التأكيد على ما تحظى به تلك القضية من اهتمام واستعداد للإسناد.


فجر يوم أمس، تم اعتقال آخر أسيرين من الأبطال الستة في جنين. شعرنا بالأسى والحزن مثلما شعرنا في كل لحظة تمّت إعادة اعتقال أسير آخر منهم. نعم ثمة شعور بالألم وربما بالمرارة أن الشباب لم يواصلوا طريق الحرية، وأن الاحتلال تمكن في نهاية المطاف من إعادتهم إلى زنازين التحقيق والتعذيب و»مردوانات» وغرف الأسر. ولا بد أننا كنا نريد لهم أن يواصلوا الطريق الجميل بين وديان فلسطين وجبالها وهم يتنسمون هواء الحرية العليل، وربما كنا نود مشاهدتهم بيننا فجأة مثل أبطال الحكايات يقفزون بين سطور الكتاب أو على حواف الشفاه؛ لأنهم يعرفون أن ظهورهم عزيز ووجودهم غير مألوف. لكن كما هي الحياة فليست كل الحكايات تصل إلى النهاية؛ لأن طبيعة الحكايات تختلف وطبيعة ما تصير إليه أحداثها تتبدل. وعليه فجأة شعرنا بالألم لأننا أردنا للحكاية أن تواصل «بطولتها» غير المألوفة، وأردنا لأبطالنا أن يواصلوا اجتراح المعجزات. كنا نريد أن نواصل سرد قصصهم لأطفالنا. في كل ليلة نضيف سطراً جديداً وحادثة أخرى تكون قد حدثت معهم أو عنهم. ثمة اشتباه واشتباك واضطراب في السرد، لكنه كان يكفي لأن يجعل حكايات أطفالنا أكثر جمالاً، ويجعل فكرة الخلود للنوم جذابة لأن ثمة ما ينتظرهم وهم يسمعون الحكاية الجديدة التي باتت من الموروث كثير التردد في ثنايا الأيام والليالي.


شعور مرير لكنه في غير محله. شعور بالغصة لكنه أيضاً ليس صحيحاً. هذا لأننا كنا نريد لهم أن يظلوا يخفقون بأجنحتهم مثل كل أبطال حكاياتنا لا يتوقفون عن التحليق في سماء البلد، يحطون فوق جبالها وعلى رؤوس وهادها وينامون بين أعشابها وشجرها البري. كنا نريدهم أن يواصلوا إمدادنا بالأمان وبالإحساس الأسطوري بمقدرتنا على اجتراح المعجزات. لذا لم نكن نريد لهم أن يعودوا إلى حيث كانوا في الأسر. نعم الأمر كان يرتبط أكثر بنا وليس بهم. كنا نريد أن نشعر أكثر بالبطولة وبالقدرة على تجاوز واقعنا الصعب بفعل سياسات الاحتلال، وأننا نستطيع أن نتمرد عليها ونكسرها. كان الأمر عنا.


في المحصلة، فإن أسرى الحرية قاموا فعلاً باجتراح انتصار في واقع مؤلم ومعقد ومركب ومستحيل. كان انتصارهم في كسر إرادة الاحتلال وكسر هيبة منظومته الأمنية، والخروج إلى وجه الأرض من جوفها تحت أبراجه والحفر لأشهر تحت غرفتهم يومياً، رغم الرقابة المستمرة والمداهمات والتفتيش التي تقوم به كلاب وحراس السجون لغرف الأسرى. كانت ثمة بطولة خارج نطاق المنطق ولا تستقيم مع عقل إلا العقل الفلسطيني الجبار الرافض للاستسلام والخنوع. تخيلوا تفاصيل عملية الهروب التي برعنا وبرع العالم في نسجها طوال الأسابيع الماضية دون أن نعرف حقيقة ما جرى، وكيف استطاع الأبطال تحقيق المعجزة. عشرات القصص وعشرات السيناريوهات والتخمينات لكننا حقيقة لم نعرف ما الذي جرى، وكيف قهر الفلسطيني قاتله.


كان يمكن أن تتواصل الحكاية أكثر من ذلك، وكان يمكن أن يحدث الكثير، ولكن ذروة البطولة والمعجزة تمّت حين خرج الأبطال وكسروا هيبة السجن والسجان، وحين جابوا البلاد عنوة واستنشقوا الحرية رغم أنف سجانهم. فعلوا ذلك لأن هذه هي الحرية. الحرية أن تكون حراً، وألا يستطيع أحد أن يفرض عليك شروطه أو أن يرغمك على فعل ما لا ترغب. كان كسر هيبة السجن هو كلمة السر في المعجزة التي تحققت. مرة أخرى لأن هذه المعجزات تختصر سر البقاء الفلسطيني، وسر عدم اندثارنا كشعب بعد فعل النكبة البشع، حيث كان يجب أن نزول ولم نزل. مقدرة شعبنا على الصمود والبقاء هي انتصاره الحقيقي إلى حين عودة البلاد وأهلنا. ببساطة كان يمكن لقضية شعبنا أن تنتهي بعد سنوات من النكبة وتصير مجرد صراع حدودي بين إسرائيل وجيرانها العرب تتم تسويته في أروقة المنظمات الدولية، ولم يكن ثمة شيء اسمه شعب فلسطيني تم اقتلاعه من أرضه وتشريده وسرقة بلاده وحرمانه من حقوقه. فجأة مثلنا خرج زكريا الزبيدي ورفاقه من فوهة النفق ليقولوا: إن ثمة أربعة آلاف وخمسمائة أسير محرومون من حريتهم، خرج الفدائي الأسمر ياسر عرفات ورفاقه في الثورة الفلسطينية وبرصاصات قليلة لكن فاعلة، أربكوا كل حسابات العالم؛ لأنهم قالوا ببساطة: انتبهوا جيداً هناك شعب يريد حريته.. القصة ليست قصة خلاف عربي إسرائيلي على الحدود بعد حرب عادية، القصة هي أن هناك شعباً تمت سرقة بلاده وطرده منه وهو لن يستكين حتى يعود الحق لأصحابه.


المعركة لن تنتهي وما كانت لتنتهي لو لم يتم القبض على الأبطال؛ لأن ثمة قضية كبرى هي قضية الأسرى يجب أن تظل حاضرة ، ولأننا بحاجة لأن نتذكر الدرس الأهم التي أبرزتها لنا قصة البطولة في الخروج من «جلبوع»، وهي أن ثمة قضايا أكبر من خلافاتنا، وأن تلك القضايا وحدها يمكن أن تخرجنا من حالة التفاصيل القاهرة المفروضة علينا والتي يبرع البعض في جعلها قضايا كونية بفعل التمويل والدفع وما إلى ذلك. طبعاً هناك ما يقال عن الإعلام الوطني الحر المتمثل في التلفزيون وأذرعه الرقمية بجانب الإذاعات ومحطات التلفزة الأخرى (طبعاً كلكم تقولون إلا البعض الذي حاول حرف البوصلة)، ومهما يكن فإننا أقوى من كل خلافاتنا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد