رغم أنه لم يمض بعد سوى أقل من ثلاثة أشهر على تشكيل ما سمي حكومة التغيير في إسرائيل، إلا أن تغييرا ملحوظا بدأ يظهر لعيان المراقب، فيما يخص سياسات إسرائيل الخارجية، وبالتحديد فيما يخص وجهتين، هما: علاقتها بالولايات المتحدة، وكذلك علاقتها بدول الجوار العربي، ومنه بالطبع الجار الفلسطيني، على جبهتيه، في غزة و رام الله ، وهذا يعني بأن مضي الحكومة في هذا المسار، الذي يشهد، اليوم، تغييرات قد تبدو طفيفة، عما كانت عليه سياسات الحكومة السابقة، إلا أنه مع مرور الوقت، قد يحدث «انقلاب» حقيقي، يتحقق عبر التراكم، ما لم تحدث انتكاسة بالطبع، تعيد التشكيل الحكومي إلى الوراء مجددا.


والتغيير الذي نتحدث عنه، من الطبيعي أن يحدث بالنظر إلى أن عهد اليمين الإسرائيلي متفردا بالحكم، متحالفا مع اليمين المتطرف والحريديم، وبقيادة بنيامين نتنياهو ، قد استمر طويلا، بحيث لم تشهد لا إسرائيل ولا جيرانها، حكما آخر، وأن الحكم السابق لم يكن يشمل ألوان الطيف الإسرائيلي، خاصة الوسط، بل اقتصر على اليمين، وإذا كنا نتحدث، الآن، عن تغيير طفيف، أي غير حاد، ولا دراماتيكي، فلأن بديل حكومة اليمين ـــ اليمين المتطرف السابقة، لم يكن اليسار، بل كان تحالفا ضم معظم ألوان الطيف السياسي، وممثلي القطاعات الشعبية، من اليمين إلى اليسار مرورا بالوسط وجنرالات الجيش وحتى العرب، الذين شاركوا لأول مرة، وإن كان بشكل غير سياسي، في الحكم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، بسبب التراكم الذي خلفه حكم اليمين المتواصل طوال نحو عقدين من الزمان.


صحيح أن تشكيلا حكوميا بهذا الشكل قد يبدو ضعيفا، بحكم التباينات السياسية والأيديولوجية فيما بين مكوناته، إلا أنه ينطوي على مكمن قوة، فاتساع القوس بهذا الشكل، ورغم أن قاعدته البرلمانية لا تمثل أغلبية كبيرة، إلا انه يمثل أوسع قطاع من الناخبين، وأوسع قطاع سكاني، ويعكس طبيعة الدولة متعددة الأعراق، كذلك فإن عدم تجانس المعارضة التي تشمل اليمين والحريديم والعرب، يمنح الائتلاف قوة أخرى، ولأنه قد حقق الأصعب، وهو الإطاحة بنتنياهو بعد أربعة عشر عاما من الحكم، فإن ما سيحدث بعد ذلك سيكون أقل صعوبة، على «قادة التغيير»، خاصة مهندسه وزير الخارجية وزعيم اكبر حزب في الائتلاف، يائير لابيد.


وحقيقة الأمر أنه من اللافت للنظر، انخفاض صوت المعارضة الإسرائيلية، التي كانت تعد نفسها وناخبيها، عشية تشكيل حكومة التغيير، بأنها ستسقطها سريعا، لكن يبدو أن حنق المعارضة الليكودية على حليف الأمس رئيس الحكومة نفتالي بينيت، فيما ذكاء قادة التغيير، بوضع الرجل اليميني على رأس الحكومة، أو في «بوز» المدفع كما نقول في ثقافتنا الشعبية، قد اضعف اليمين عموما، الذي وإن كان على عكس اليسار لم يتلاش، إلا انه انقسم، إلى ثلاث أو أربع كتل برلمانية، فحتى حلفاء بينيت اليمينيين في الحكومة الحالية، أي افيغدور ليبرمان، وجدعون ساعر، لا يظهران كداعمين كبيرين له، حتى في خلافاته داخل الحكومة!


وقد ظهر بالمقابل يائير لابيد كوسطي ضامن لعدم فرط عقد التحالف الحاكم، فيما يخص التصريحات الخاصة بالعملية السياسية مع الجانب الفلسطيني، أو فيما يخص الزيارة المضادة لزيارة بينيت لواشنطن، نقصد زيارة بيني غانتس لرم الله.


يدرك مهندسو حكومة التغيير بأن «زيادة» العيار قد تؤدي بالحكومة إلى السقوط، لذا هم يعملون بصمت وبتؤدة، وإذا كان التغيير قد ظهر جليا في علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة، حيث إن إسرائيل التي كانت في عهد نتنياهو تجر واشنطن في عهد ترامب خلفها، وتسييرها كما يحلو لها، عرفت حجمها في عهد بينيت/ بايدن، وجاهدت كل مؤسسات الدولة خاصة الأمنية منها لإقناع الولايات المتحدة بصحة وجهة نظرها تجاه الملف النووي الإيراني.


أما ما يخص العلاقة مع الجار الفلسطيني، فقد تغيرت البوصلة، التي كانت في عهد نتنياهو الشد على يد « حماس » في غزة، والضغط المتواصل على رام الله، فكل ما يحدث على جبهة غزة، من عض للأصابع والتدخل الجدي من قبل مصر وحتى قطر، يقول إن حكومة التغيير في إسرائيل مصرة على تغيير مسار التعامل مع غزة، خاصة فيما يخص المال القطري، الذي أبقى على حكم «حماس»، وبالتالي أبقى على الانقسام، أما العلاقة مع رام الله، فهي تسير وفق التوافق مع واشنطن، وحين رفع بينيت صوته ضد لقاء غانتس، وهو لقاء مهم جدا، لأنه الأول لمسؤول إسرائيلي رفيع منذ العام 2014، لم يجد صداه لدى أحد، فغانتس هو الرجل الثالث في الحكومة، وهو الذي يدرك المصلحة الأمنية الإسرائيلية أكثر من غيره، وقد أيد بايدن شخصيا اللقاء، فيما توالى التأييد حتى وصل رئيس الدولة شخصيا.


صحيح أن رئيس الدولة هو شخص شرفي، لكن لأنه إسحق هيرتسوغ الذي كان يوما رئيس المعسكر الصهيوني المنافس لنتنياهو في واحدة من الجولات الانتخابية السابقة حين كان رئيسا لحزب العمل، فإن لموقفه دلالة سياسية، تؤكد ضرورة تغيير السياسة السابقة تجاه رام الله.
يبدأ الأمر بما هو مقبول على الرأي العام الإسرائيلي، لكن مع الضغط الفلسطيني، والشعبي الأميركي على نحو خاص، ومن ثم الضغط العربي الرسمي، خاصة من دولتي الجوار بالغتي التأثير والحضور في ملف العلاقة الفلسطينية ـــ الإسرائيلية، أي مصر والأردن، فإن الأمر يأخذ مجرى جديا ومهما.


في نهاية المطاف، ستظهر متغيرات تعتبر نقاط إعادة الأمر إلى شكله الطبيعي، وحين يتم افتتاح القنصلية الأميركية في القدس ، وتنجح القاهرة في فرض اللقاء الجماعي الذي يضم الرئيس محمود عباس ونفتالي بينيت، ستنطلق العملية السياسية، التي لا بد أن تنتهي بوضع حد لأسوأ احتلال على وجه الأرض، وصحيح، أنه من الصعب دائما إعادة التاريخ لما كان عليه، لكن إطلاق العملية السياسية، آخذة بعين الاعتبار المستجدات خلال الفترة ما بين 2014 وحتى الآن، أو الفترة ما بين 1994 ــ حتى الآن، سيتحقق عاجلا أم آجلا، وعلى الأغلب وفق إطار مختلف، قد لا يقتصر على الولايات المتحدة كراع وحيد، فالحديث عن مبادرة مصرية، لم تتضح معالمها بعد، يعني بأنها قد تكون بديلا عن المبادرة العربية، التي تخلت عنها صاحبتها نفسها، لكن المهم دائما هو النتيجة، والنتيجة لن تبتعد كثيرا، عن إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وفي التفاصيل إنهاء الانقسام، ورسم الحدود، وتحديد الفواصل والقواطع بين دولتين تحاربتا طوال عقود، وتسعيان غدا إلى حسن الجوار.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد