من يحاول إجراء قراءة سليمة، لتحديد خطواته اللاحقة، إزاء ما يجري على ساحة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في هذه الفترة، عليه أن يبدأ من البيت الأبيض. في أيام إدارة ترامب السابقة، كانت المواقف والسياسات والإجراءات واضحة إلى درجة الفجاجة، وكان معروفا للجميع من يدير الملف، واشتهر باسمه. كان جاريد كوشنر صهر الرئيس ترامب هو العنوان الرئيس يعاونه في ذلك جيسون غرينبلات، وكان يكفي متابعة ما يصدر عنها من تصريحات، وما يتبعها من تحركات لمعرفة الدوافع والأهداف والآليات التي تعتمدها إدارة ترامب.
كانت إدارة ترامب تدير السياسات بقفازات حديدية، ولكن إدارة بايدن، تديرها بقفازات ناعمة، وفي غياب أبطال معروفين بأنهم من يدير هذا الملف. غير أن الوقائع الملموسة والمتلاحقة تشير إلى أن الولايات المتحدة تتابع عن كثب، تفاصيل المواقف والإجراءات التي تتخذها كافة الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية وحتى العربية والإقليمية، ولا تتأخر في التدخل.
لا شك بأن لدى إدارة بايدن رؤية واضحة إزاء كل ما يتعلق بالشرق الأوسط، رغم أن هذا الملف لا يحظى بالأولوية بالنسبة للسياسة الأميركية، التي تضع على رأس اهتماماتها الصين كعدو أول وخطر، وتشكل رؤيتها للصين، محددا لكيفية التعاطي مع الأحداث ذات العلاقة.
في حديث صريح، استهل به رئيس الحكومة الفلسطينية الدكتور محمد اشتية اجتماع مجلس أمناء مؤسسة الشهيد ياسر عرفات قال إن ثمة فراغا سياسيا في المنطقة، حيث لا رؤية سياسية واضحة أو مبادرات من قبل الولايات المتحدة، ولا حراك أوروبيا في اتجاه تقديم مبادرات سياسية، أو توظيف لقدراتها الاقتصادية فيما يتعلق بمسار التسوية، أما الأمم المتحدة فهي غائبة عن التعاطي الجدي مع هذا الملف، والرباعية الدولية التي اجتمعت أربع مرات لم تحرك ساكناً.
في الواقع فإن لدى إدارة بايدن رؤية سياسية تقوم على تهيئة الظروف، عبر إجراءات بناء الثقة، واستقرار التهدئة، ومعالجة بعض العقبات الصعبة، التي تحول دون فتح المسار السياسي التفاوضي، على أساس رؤية الدولتين.
هذا التقييم لا يتناقض مع ما صرح به الدكتور اشتية، ذلك أن القول بوجود فراغ سياسي، يستند إلى تقدير بأن مرحلة بناء الثقة ومعالجة العقبات أمام المسار السياسي، تحتاج إلى فترة طويلة نظرا لتراكم السياسات والإجراءات التي أطاحت كليا بثقة الأطراف، بعضها ببعض، بما يصعب إمكانية معالجتها بسرعة، بالإضافة إلى صعوبة العقبات التي تحول دون فتح المسار السياسي.
في بداية عهدها، قال وزير الخارجية الأميركي بلينكن، بما يفسر رؤية إدارة بايدن، إن الولايات المتحدة ستبذل جهدا لإعادة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى طاولة المفاوضات على أساس رؤية الدولتين، التي تكاد تكون الوحيدة التي تحقق السلام، ولكن تحقيق إنجاز يحتاج إلى وقت قد لا تكفي معه السنوات الأربع التي ستكون تحت إدارة بايدن.
في الجوهر فإن مرحلة بناء الثقة، دون أفق سياسي أو مبادرات ملموسة، لتحريك المسار السياسي، وتوظيف إمكانيات الولايات المتحدة وأوروبا، للضغط على إسرائيل، لكي تتوقف عن سياساتها لتقويض رؤية الدولتين، هذه المرحلة، تعني عمليا وعلى أرض الواقع تكريس سياسة السلام الاقتصادي، في هذا السياق لا تستعجل إدارة بايدن تنفيذ ما وعدت الفلسطينيين به، سواء فيما يتعلق بالدعم المالي، أو فتح القنصلية في القدس ، أو فتح مقر منظمة التحرير في واشنطن، ويتزامن ذلك بخطوات منسقة على ما يبدو، مع تأخير الدعم المالي الأوروبي للسلطة، التي بالكاد تستطيع دفع رواتب موظفيها وتعاني من عجز يزيد على مليار دولار.
إسرائيل هي الأخرى على الخط، حيث رفعت نسبة استقطاعها من أموال المقاصة من خمسين مليون شيكل شهريا إلى مئة مليون شيكل، بالرغم من كل الحديث عن الحاجة لتقوية السلطة في الضفة، وتعزيز هيبتها وقدرتها على السيطرة.
صحيح أن إدارة بايدن بدأت تدفع مستحقاتها لـ» الأونروا »، ولكنها أيضا وقعت مع إدارة «الأونروا»، اتفاقية أو إطار تعاون، يتضمن التزامات سياسية ويفرض شروطا في سياق توظيف «الأونروا»، للضغط على حركة حماس وفصائل المقاومة في غزة .
لم تنتظر كثيراً منظمة «هيومان رايتس ووتش»، حتى وجهت اتهامات بارتكاب جرائم حرب لفصائل غزة، وحتى يرفع المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة صوته مطالباً، باتخاذ إجراءات بسبب ما يقال عن أن حماس تستخدم بعض مؤسسات «الأونروا» لأغراض عسكرية.
كانت إدارة «الأونروا» قبل ذلك قد اتهمت الفصائل باستخدام أنفاق تحت أو بالقرب من منشآتها ومؤسساتها.
هذا هو منطق القوة الغاشمة، التي ترى بعين واحدة، فهي تتغاضى عن انتهاكات إسرائيلية لمؤسسات المنظمة الدولية، حين قصفت مركزها الرئيس في غزة، وقصفت مدارس وحين ارتكبت مجزرة قانا العام 1996، إذا كان ثمة اتهامات أو شبهات فالسؤال هو: لماذا ترفض إسرائيل التحقيقات الدولية، وتخوض حربا ضد القائمين عليها والداعين لها، بينما يقبلها الفلسطينيون ويتعاونون معها؟
الأصل أن ثمة حصارا مشددا ويتشدد بحق غزة وفصائل المقاومة لتحييد السلاح، وعند هذا الهدف تتلاقى أطراف كثيرة، وتتقاطع خطوط كثيرة.
من يدير الملف في إدارة بايدن، يحرص على منع أي انفجار في الشمال أو الجنوب، أو في الضفة والقدس، وأما حكومة بينيت فإنها تسمع الكلام، فهي إضافة إلى هشاشتها وضعفها، تريد كسب ثقة إدارة بايدن إزاء الملف الإيراني.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد