شعر نتنياهو ـ كما لاحظنا ـ بنشوة غير معهودة بعد نتائج انتخابات الكنيست الأخيرة، واعتبر أنه حقق انتصاراً كبيراً لنفسه ولحزبه ولكامل معسكر اليمين في إسرائيل.
الكثير من المحللين الإسرائيليين قالوا في حينه إن النصر الذي يتحدث عنه نتنياهو هو نصر موهوم وذلك في ضوء أن قوة الليكود ليست بالضرورة قوة لنتنياهو، وقوة اليمين ليست بالضرورة قوة لنتنياهو، بل وذهبت بعض الأوساط إلى اعتبار هذا "الانتصار" هو بمثابة قراءة سطحية للواقع السياسي في إسرائيل.
أغلب الظن أنه حتى منتصف الليل سيكون نتنياهو قد تمكن من تشكيل حكومة بقاعدة غير مستقرة وقابلة للسقوط في أية لحظة (أي أكثر من 61 عضو كنيست)، وأغلب الظن أن المراهنة الوحيدة التي بقيت أمام نتنياهو هي "محاولة" إقناع ليبرمان بعد تشكيل الحكومة بالعودة إليها بشروط "مقبولة" لكل من نتنياهو وليبرمان، هذا كله إذا تمكن نتنياهو من إقناع "بينيت" بالمشاركة في الحكومة.
إذن مراهنة نتنياهو هي على مرحلة ما بعد تشكيل الحكومة في حين أن مراهنة المعارضة ستكون على نفس تلك المرحلة ولكن بهدف إسقاطها وليس تعزيزها.
إن بقاء نتنياهو تحت رحمة عضو واحد من أعضاء الكنيست هو بحد ذاته هزيمة سياسية كبيرة بالمقارنة مع الآمال والأوهام التي سادت في المجتمع السياسي الإسرائيلي بعيد ما سمي بالزلزال السياسي الذي بدا فيها نتنياهو وكأنه قاهر الظروف وكاسح كل الألغام.
ومما يرجح أن يكون نتنياهو في وضع هش وضعيف وقابل للابتزاز عند كل منعطف وزاوية هو أن أحداً في إسرائيل لا يثق به كشخص، ولا يعوّل على كل ما يقوله، خصوصاً وانه باع الجميع للجميع في مرحلة المفاوضات من أجل تشكيل هذه الحكومة السقيمة.
كما يرجح أن يئن تحت وطأة هذا الجو الابتزازي المهين حزب الليكود نفسه، إضافةً إلى نتنياهو، ذلك أن "إقناع" بينيت بحد ذاته تحوّل إلى مهانة سياسية في الواقع، وتحولت لغة حزب الليكود في الساعات الأخيرة إلى التوسل السياسي تحت غطاء "الخوف" على معسكر اليمين ومستقبل هذا المعسكر. كما تركزت الدعاية السياسية الإعلامية الليكودية في الساعات الأخيرة على محاولة "تحميل" البيت اليهودي "المسؤولية" التاريخية عن آمال اليمين الإسرائيلي في "مبدأ" الإمساك بزمام الأمور في إسرائيل من عدمه.
في نهاية المطاف يمكن أن يفلح نتنياهو في إقناع البيت اليهودي ـ فهنا ليست مشكلة نتنياهو الرئيسية ـ وإنما المشكلة الكبرى في القدرة على المحافظة على هذا التحالف لفترة نسبية تتجاوز حدود الفضيحة السياسية، هذا طبعاً إذا لم يختلف أعضاء البيت اليهودي على الكعكة.
شخصياً لا أعتقد أن ليبرمان في هذه المرحلة يقوم بمناورة ابتزازية من النوع المعهود تماماً، كما لا أرى بالمقابل أن ليبرمان قد تخلّى عن المشاركة في الحكومة لأسباب تتعلق بالمبادئ ـ كما ادعى ـ وإنما لأسباب تتعلق بالحقائب قبل كل شيء وعلى العكس تماماً مما حاول.
لكن ومع ذلك فإن ليبرمان ـ بعد أن فقد الأمل بالحقائب والمناصب ـ ربما اقتنع أن الفساد الذي أحاط به من كل جانب بات يملي عليه أن يجلس مؤقتاً في مقاعد "المعارضة" علّه بذلك يستثمر في تلك المقاعد كحالة تعويض عن الخسارات التي مُني بها في ضوء فضائح الفساد، وعلّه يوجه اللكمة التي كان يبحث عنها. أمّا كحلون فإن بقاءه في الحكومة أمر يؤدي إلى الغرض ولكنه لا يحقق الأهداف.
ففي النهاية فإن شخصية صاعدة مثله بات لها من الطموحات السياسية ما هو أبعد من مجرد حقيبة هنا وأخرى هناك.
فهذا الرجل ـ مأخوذاً بنشوة الانتصار ـ بات يحتاج إلى حكومة مستقرة تحقق له الأهداف الاقتصادية والاجتماعية التي ميّزت دعايته الانتخابية وشعاراته التي من خلالها استطاع على ما يبدو أن يستميل قواعد واسعة من المعسكر اليميني أو من المزاج اليميني السائد في إسرائيل، وخصوصاً المعتدل منه. وأما حركة "شاس" فهي حتى وإن وقعت على اتفاق تشكيل الحكومة فهي لم تكن راضية تماماً من هذا الاتفاق بعد تجريد درعي من اللحم الذي يكسو وزارة الداخلية، وبعد أن تركوها له ـ أو بالأحرى بعد أن تركها له نتنياهو ـ مجرد عظم يابس.
وأما المعسكر الصهيوني فإنه ليس بوارد "إنقاذ" نتنياهو من الورطة التي وقع بها أو بالأحرى أوقع نفسه بها من خلال ألاعيبه السياسية البهلوانية من حيث الشكل والبائسة من حيث المضمون والأهم الصغيرة من حيث الأهمية.
صحيح أن كافة الأحزاب التي وقعت مع نتنياهو قد حصلت في النهاية على ما كانت تصبو إليه لكن درجة خوفها على نفسها قد يزيد من هشاشة الحكومة التي يأمل نتنياهو بالنجاح في تشكيلها.
بقي أن نقول إن غياب الموضوع السياسي هو القاسم المشترك الأعظم في كامل ماراثون المفاوضات من أجل تشكيل هذه الحكومة.
لم نسمع ولا كلمة واحدة حول المفاوضات أو السلام أو عن شيء من هذا القبيل، وكأن كامل الطيف اليميني في إسرائيل ليس لديه مشكلة اسمها السلام أو المفاوضات.
قد تكون هذه المسألة هي سرّ قوة الحكومة حتى ولو كانت مشكّلة من 61 عضو كنيست فقط، لكن هذه المسألة بالذات على العكس مما تبدو عليه الأمور هي نقطة ضعفها الأساسية.
اليمين في إسرائيل يحاول أن يصوّر لنفسه وكأن إسرائيل تعيش في كوكب آخر. أي أن إسرائيل تعمل وكأن الشعب الفلسطيني ليس موجوداً على الكرة الأرضية، وكأن المعادلة الإقليمية تعمل لصالحها وإلى الأبد، وكأن الوضع الدولي لا أهمية تذكر له، ولا يجوز ولا يجب أن يحسب حسابه.
حكومة محكومة بهكذا عقلية هي في النهاية تعيش خارج الواقع وتعمل بمعزل عنه ليس لها إلاّ أن تسقط في أول مفترق سياسي يجبرها على العودة إلى الواقع.
عند أول منعطف سياسي "ستكتشف" هذه الحكومة أن الشعب الفلسطيني وحقوقه هي الحقيقة الأكبر في الواقع الإسرائيلي، وان تجاهل هذا الواقع لا يفيد إسرائيل بل ان هذا الواقع بالذات هو الذي يحول كل الموضوع الإسرائيلي إلى نوع من الخديعة فيها الخادع والمخدوع شخص يتقمص الأدوار ويتداولها في المشهد المخادع.
عند أول مفترق وعندما تجابه إسرائيل بالحقيقة الفلسطينية ستختفي هذه الحكومة عن المشهد السياسي دون أن يجازف أحد حتى بالسؤال عن سبب هذا الاختفاء المفاجئ والسريع.
ولأن الموضوع الفلسطيني غائب عن أعمال واهتمامات هذه الحكومة إلاّ من زاوية الانتهاك والتنكّر لهذه الحقوق فإن القائمين عليها ليس لديهم من قاسم يجمعهم سوى العداء للشعب الفلسطيني، ولهذا فانهيار حكومتهم سيكون مؤكداً عند أول إطلالة فلسطينية قوية على الواقع الإسرائيلي.
ولعلم نتنياهو فإن حكومة يمين متطرف في إسرائيل تخدم المصالح الفلسطينية من تجاهل الواقع أكثر بكثير مما يتصور نتنياهو.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية