ثمة من يصنع وهماً، ثم يحوله إلى خيال، ثم يصدق نفسه أنه صنع حقيقة، لأنه أندمج في خياله إلى حد الغرق، ولم يعد بإمكانه الانفصال ولو للحظة واحدة لتأمل ما صنع بعين الناقد العلمي، لذلك فإنه يستغرب ويستهجن المنطق العادي، ولا يصدق إلا منطقه الخاص الذي يعيش في تلافيف عقله ووجدانه وذكرياته وأوهامه.
نشأت منظمة التحرير الفلسطينية بقرار من جامعة الدول العربية في بداية عام 1964م، لتعقد أول مؤتمرٍ لها في مايو من نفس العام ب القدس التي لم تكن حتى ذلك الوقت محتلة.
كان الهدف من إنشائها أن ينفض النظام العربي الرسمي يده من قضية فلسطين، ومن المقاومة الفلسطينية، ويحملها (أي المنظمة) وزر هذه القضية، ولكنه في نفس الوقت أراد من هذا القرار أن تظل المقاومة الفلسطينية والمنظمة الفلسطينية خاضعة للقرار العربي الرسمي وأن يظل المقاتل الفلسطيني مدجناً في حظائر عربية تسمى "جيش التحرير الفلسطيني" الذي هو أحد مؤسسات منظمة التحرير، حتى لا تطيش رصاصة من سلاحه لتصيب مستوطناً صهيونياً، أو جندياً.
لم يعجب هذا الحال التنظيمات الفلسطينية الثورية، فانهالت على المنظمة بأقذع ألوانه السباب والشتائم والاتهامات، وكانت حركة فتح بزعامة ياسر عرفات الأكثر تصدياً لهذا الاحتواء وهذا التدجين للمقاومة وللقرار الفلسطيني.
انطلقت الرصاصة الأولى، فأسرَّ النظام العربي الغيط في صدره، لهذا التطاول وهذا العبث وهذا التوريط، فكادوا لهذا التيار الثائر، ولكنهم لم يشاءوا الظهور بمظهر من يحارب المقاومة، ولم يكن أمامهم سوى اللعب الذكي، والاحتواء الهادئ لحركة فتح، وقاموا بدراسة الواقع النفسي لقيادة حركة فتح، ورغبتها في الزعامة، فباعوا لها الزعامة مقابل الانصياع للعبة العربية الرسمية، وقد كان.
تسلمت حركة فتح زعامة منظمة التحرير بعد هزيمته عام 1967م وأصبح الزعيم ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية منذ العام 1968م – 1969م، ولحقت كل التنظيمات المقاتلة الفلسطينية بهذه المنظمة التي شكلت تحالفاً وبيتاً لكل ألوان النضال الفلسطيني أو على الأقل لكل الأطياف البارزة من هذا النضال ودخل الجميع إلى القفص.
عملت بعض الفصائل الفلسطينية خارج سياق اللعبة والخطوط الرسمية المرسومة، فكانت النتيجة القمع العربي البشع، كما حدث في الأردن وكما حدث في لبنان، وكما حدث مع سورية، وكانت مصر الأذكى، حيث لم تسمح البيروقراطية العسكرية المصرية لقوات فلسطينية من التحرك متراً واحداً خارج المعسكرات وخارج القرار المصري.
بعد حرب 73، ومباشرة في العام 1974م أدركت المنظمة بحسها المجاور للقرار العربي أن حرب 73 كانت آخر الحروب العربية، فجهزت نفسها للتسوية، وكانت النقاط العشر عام 1974م، وكان أن وصل السيد ياسر عرفات ليرفع غصن الزيتون في الأمم المتحدة، معلناً عن مرحلة جديدة مقاربة للسياسة العربية الرسمية التي أملتها الدولة العربية الأكبر جمهورية مصر العربية.
عام 1982م كان القرار العربي في مدينة فاس المغربية بالاعتراف بالقرار 242، ولم تستطيع المنظمة الرفض، وتدحرجت الأمور إلى محادثات أمريكية فلسطينية طوال سنوات الثمانينات ولاسيما بعد الخروج من بيروت، ولم يقطع هذا الوصال سوى اشتعال انتفاضة 1987م التي اتهم أبو جهاد بتشجيعها والخروج عن الخط العربي العام، فكان القرار السريع وبعد خمسة أشهر فقط من بداية الانتفاضة باغتيال أبو جهاد.
بعد اغتيال أبو جهاد تواصلت الجولات، وتزامن ذلك مع غزو العراق للكويت، ومن ثم التحالف العربي الأمريكي لهزيمة صدام حسين وصولاً إلى رسم السياسات الجديدة في المنطقة، وكانت مدريد بداية النهاية للمحادثات السرية بين منظمة التحرير وإسرائيل، لتبدأ مرحلة جديدة هي مرحلة أوسلو.
بدأت أوسلو باتفاق عربي فلسطيني إسرائيلي أمريكي على تصحيح الواقع الذي حدث في الأراضي المحتلة عام 1967، وهذا يستلزم القضاء على حالة الخروج عن منطقة منظمة التحرير أي القضاء على المقاومة وعلى رأسها الكائن الخطير الجديد الذي اسمه حمـــــــــــاس.
اللقاء الذي سبق أوسلو بين وزير صهيوني ومسئول من منظمة التحرير في باريس –كما يروي محمد حسين هيكل- ثم التوافق فيه على قاسم مشترك وهو القضاء على حركة حماس !!.
ثم كانت أوسلو خطة أمنية لتحقيق هذا الهدف، ثم بعد ذلك سيكون الحساب السياسي، كانت الاعترافات المتبادلة بين المنظمة ودولة الكيان، وكانت المبادئ التي تحكم المسيرة التفاوضية التي تقوم على ثلاثة أركان:
أ. لا لعُقد التاريخ، "نحن أولاد اليوم".
ب. لا للشروط المسبقة، "المفاوضات الثنائية هي التي تفرز الحلول".
ت. لا لأي مرجعية سوى التفاوض.
الثابت الوحيد في المعادلة هو القضاء على حماس وهو هدف جماعي وافق عليه النظام العربي الذي لا يريد أن يرى أي جسم خارج عن حظيرة منظمة التحرير المدجنة.
قام النظام العربي والدولي بتسليم عهدة منظمة التحرير للسلطة الجديدة في الضفة والقطاع لتشرف بنفسها على تحقيق هذه الرؤية العربية، مع الاستبقاء على اسم المنظمة فقط فارغاً من أي مضمون حتى يضمن النظام العربي استرداد التركة إلى الاسم الأصلي في حال تم حل السلطة أو تم انحرافها عن الخطة المرسومة.
هذا جزء من القصة ،، فهل يا ترى بعد ذلك من الممكن أن تصلح المنظمة بيتاً وطنياً قادراً على حمل أمانة التحرير؟
وهل تصلح السلطة بيتاً وطنياً قادراً على حماية مشروع دولة أو حتى دويلة؟
وهل تستطيع هذه الأنظمة وهذه المنظمة وهذه السلطة أن توقف ثورة الشعب بعدما أصبحت هذه القوى المتحالفة أمام أعين الجميع تحالفات معادية للقضية والتحرير؟! هذا ما يحتاج إلى إجابات !!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية