تم تأجيل الانتخابات وسط زخم نقاش كبير بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى. وبدا البعض مستغرباً وهاج البعض الآخر، وتبدلت الخيارات والأولويات من دون إدراك أن جوهر الوفاق الوطني منذ أول وثيقة حتى آخر ما تم التوقيع عليه بين «فتح» و» حماس » قائم نصاً على أن تجرى الانتخابات بما في ذلك في القدس . أي دون استثنائها. وربما نسي البعض أن الانتخابات قبل ذلك تم تأجيلها أيضاً بسبب القدس. كما أن الرئيس رفض ضغطاً أوروبيا وأميركياً بعد الانقلاب بإجراء انتخابات من دون غزة ، ووقتها قال عبارته الشهيرة: «لا دولة بلا غزة». يطيب لثوار السوشيال ميديا أن يقزموا الأمور. طبعاً وفي مثل هذا الزمن يسهل فعل ذلك لأن الكيبورد وأزرار الهاتف الذكي ليست حاجزاً عسكرياً، ولا هدفاً للعدو يشكل الاقتراب منه خطراً.


تم تسطيح كل شيء. ولو عاد الشهداء (وحسناً أنهم لا يعودون) لفضلوا الموت على أن يروا من يطالب بانتخابات من دون القدس، ومن يريد أن يصبح عضواً في المجلس التشريعي بأي ثمن. والأدهى من يوهم نفسه بأنه فائز وأنه تم حرمانه من تمثيل الشعب ويحب أن ينسى أنه ترشح؛ لأن ثمة قانوناً سمح له بذلك من دون أن يعطيه القانون الحق في أي شيء آخر إلا بعد تأكيد فوزه. ظهر على السطح الكثير من القشور والبثور وأشياء كثيرة، وكُشف الكثير من المعادن. يجب إعادة السؤال مرة أخرى، ليس عن الانتخابات فقط، بل حول طريقة إدارة الشأن الوطني. أظن أنه لولا وجود السلطة الوطنية لما كان يصار التفكير في إجراء انتخابات بالطريقة التي نعرفها. فالشأن الفلسطيني الداخلي كان يدار طوال عقود منذ وعد بلفور واحتلال البلاد على يد الإنجليز، وبعد النكبة وانطلاق الثوار لحمل الراية كان يدار بالتوافق وبالشرعية النضالية. ومن عجائب الزمان أن يأتي من يتهكم على ذلك.


أقول، لولا سعي القيادة إلى ترسيخ الدولة عبر خلق مؤسسات ديمقراطية، وفق ما تعمل بقية الدول، لما كانت هناك انتخابات. بمعني أن الانتخابات جزء من تجسيد الدولة، والتعاقد الذي تقوم عليه السلطة سواء مع دولة الاحتلال وفق اتفاق أوسلو، أو مع المجتمع الدولي، ولسعيها لأن تصبح جزءاً من مجتمع الدول فإن ما يلزمها لذلك هو الانتخابات. أما من يقول: إن هذا حقه فهو أيضاً حق الفلسطيني في الشتات الذي لا يمارس الانتخابات، إذا كان الأمر قصة حق. ومع هذا تم على مدار عقود البحث عن أفضل الصيغ للوفاق الوطني بما يكفل نجاعة عمل المؤسسة. فالانتخابات جزء من النظام الذي يسبّ عليه كل من غضب على إلغائها.  أقصد نظام السلطة التي أنتجتها أوسلو «اللعينة». هناك من ينسى أن جواز سفره أيضاً يحمل هذه اللعنة، لكن طبع البشر ترى ما تريد وتغمض عينيها عن كل ما لا تريد. وهذا تسطيح آخر.


بعبارة أخرى لو لم نكن بحاجة لمواصلة بناء الدولة على الجزء المتاح، وكان هذا نصاً في اتفاق أوسلو وكان هذا جزءاً من تعاقدنا مع العالم الخارجي من أجل تسهيل تنفيذ الاتفاقيات، فإن وجود الانتخابات لم يكن ليكون شرطاً فلسطينياً داخلياً لتنظيم الشأن العام. لأن إجراءها في الضفة وغزة ببساطة هو جزء من مشروع الضفة وغزة كدولة ويحرم الفلسطينيين في الشتات من أي رأي. وطالما أن تحقيق الدولة بالشكل المطلوب سيعني أن تفرض دولة الاحتلال شكل الانتخابات، فإنه دون التوصل إلى تحقيقها في القدس فهذا يعني أن وجودها ليس حاجة بل تلبية لشروط الاحتلال. هذه المرة بلا القدس والمرة القادمة بلا الغور والثالثة بلا مناطق «ج»، بعبارة أخرى بدلاً من أن تكون الانتخابات خطوة تجاه تحقيق الحل المرحلي بوجود دولة في الضفة وغزة ستصبح سيفاً لتحقيق شكل الكيانية التي يريدها لنا الاحتلال، والتي لن تكون على أكثر من 30% من الضفة الغربية وكل قطاع غزة مع حصاره ومنع من لا يرغب بدخوله من دخوله. تذكروا أنه تم السماح لخالد مشعل بزيارة غزة عام 2012، وتم منع الراحل رمضان شلح . وعليه مرة أخرى القصة ليست قصة انتخابات ولا هي قصة أين نضع صندوق الانتخابات. لأنه يمكن فعل ذلك بسهولة لكن الذي لن يتحقق بأي حال هو إنجاز المشروع السياسي.


جوهر الفعل السياسي الفلسطيني هو الوصول لطريقة إدارة الحياة السياسية. تذكروا تم تقبل «حماس» كشريك أساس في الحياة السياسية قبل سنوات كثيرة من نجاحها في الانتخابات عام 2006. بمعني أن الشرعية النضالية هي الأساس. وهذا هو الدافع الحقيقي وراء فتح حوارات وطنية مع «حماس» منذ العام 1996 في السودان وما تلاها. هناك من يريد أن يصدق أنه بمجرد ترشحه يصبح صاحب رأي. المئات ترشحوا ونسي الناس أمرهم. أو أن تسجيل لقطة فيديو تجعل منه جيفارا وأن «اللايكات» تعني أصوات ناخبين.


مرة أخرى، إن جوهر الانتخابات هو البحث عن سبل إدارة الحياة السياسية. وهي واجبة إذا لم تنتقص من الحق الوطني ولا تمس جوهر الكفاح التحرري. البلاد ليست شركة غير ربحية ولا منظمة أهلية. كما أن القضية الوطنية ليست السلطة الوطنية وحق سكانها وحقوقهم المدنية، بل هي شعب مشتت يريد أن يرجع إلى أرضه. من يملك التقرير في ذلك هي منظمة التحرير الفلسطينية. وعليه فإن التركيز القادم يجب أن يكون على المنظمة بوصفها المرجع الأعلى للحالة الوطنية الفلسطينية. دون أن يعني هذا عدم الضغط من أجل استكمال الاستحقاق الانتخابي إن أمكن لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة دون استثناء القدس كجزء من تجسيد الدولة وليس قتلها. هكذا يمكن وضع الأمور في نصابها وتحويل النقاش إلى هم وطني عام وليس تقزيم الحقوق الوطنية.
 

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد