115-TRIAL- عندما تنازل سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني إلى وليِّ عهده ونجله الأمير تميم قبل سنة تقريباً كثرت الأقوال والتساؤلات، التي تحمل الكثير من القلق والتخوفات من انعكاسات ذلك – سلباً - على القضية الفلسطينية، ووجاءت الأسئلة التي طرحها الشارع الفلسطيني على الشاكلة التالية: هل ستغير قطر من سياستها الداعمة - بسخاء - للحكومة في قطاع غزة ؟  وهل سيكون الأمير الجديد قادراً على تحمل الضغوط الأمريكية المطالبة بوقف كافة أشكال الدعم عن حماس ؛ الحركة والحكومة؟ وهل سيكون الشيخ تميم على نفس مستوى الجود والكرم لأهل فلسطين كما كان الحال على عهد أبيه؟  
في الحقيقة، كان هناك – دائماً - من يتعمد التشكيك في دوافع وأبعاد ما تقدمه قطر وأميرها الشيخ حمد للفلسطينيين، ويحاول ربط ذلك بأجندات سياسية لها علاقة بما تمر به المنطقة من أحداث، وما يدور فيها من تكتلات على خلفيات ما هو قائم من صراع بين معسكري (الممانعة) و(الاعتدال)، وأن هذا السخاء في العطاء القطري لحماس، والذي نالت حكومة غزة حظاً وافراً منه مهدد بالتوقف، وسوف ينتهي قريباً.. ودخلت – للأسف - على خط التحريض والمماحكة والتشهير أقلام فلسطينية وعربية لا تحمل الخير لا لقطر، ولا إلى حماس.
لقد شدتني تلك الاستفزازات، والاتهامات المغرضة، ومحاولات الإساءة المتعمدة لدولة قطر، وإلى سمو الشيخ حمد؛ الذي تذكرنا مكرماته وعطاياه بحاتم الطائي، إلى التحرك والرد، وذلك بكتابة بحث بعنوان: "حماس وقطر: كرم العطاء وجدل السياسة" في أكتوبر 2013م، حاولت فيه استعراض طبيعة العلاقة القطرية - الفلسطينية تاريخياً، والرد على اتهامات البعض بتبعية حركة حماس للسياسة القطرية، كما تناولت فيه أوجه الدعم المالي والإنساني الذي جادت به العديد من المؤسسات والجمعيات الخيرية في هذا البلد المعروف بجوده وكرمه لأهل فلسطين.
أزمة الرواتب: الجديد القديم
إن ما وقع من حركة احتجاج داخل الشارع الفلسطيني أمام بنك فلسطين وأكشاك "الصرَّاف الآلي" في قطاع غزة، وتعطل صرف رواتب موظفي السلطة الأسبوع الماضي كان مقلقاً وإن كان ليس جديداً، حيث كانت هناك - دائماً - صعوبات في توفير الأموال اللازمة لدفع مستحقات الموظفين في مواعيدها لاعتبارات متعددة.
إن من باب الأمانة القول: إن قطر وأميرها الشيخ حمد كانت في معظم الأزمات هي من يقدم لنا الحل وطوق النجاة، حدث هذا خلال الحكومة العاشرة، وكذلك في فترة حكومة الوحدة، وأيضاً بعد الأحداث المأساوية في يونيه 2007م.. وأخيراً، ما شاهدناه في سياق أزمة الرواتب، والتي شكلت أول تحدٍ لحكومة التوافق الوطني، وكادت تعصف بكل ما تم التوقيع عليه في "اتفاق مخيم الشاطئ" في 23 أبريل الماضي، حيث جاءت المبادرة الكريمة من سمو الشيخ تميم بن حمد لإنقاذ المصالحة، وذلك بتقديم منحة مالية لدفع رواتب موظفي غزة إلى حين إجراء الانتخابات العامة بعد ستة شهور، حيث سيتم بعدها إعادة هيكلة الجميع على ميزانية السلطة، بعيداً عن حسابات فتح وحماس. 
قطر: ثوابت وقيم
تعتبر القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب والمسلمين، وتحاول كل دول الأطراف الذكية بالمنطقة، والطامحة لأدوار إقليمية ودولية أن يكون لها دور فعَّال ومؤثر في المسارات المتعددة لهذه القضية.. من هنا، كانت قطر تاريخياً مع القضية الفلسطينية، فمنذ أواخر الخمسينيات كانت الدوحة هي الحاضنة للقاءات الأولى للعديد من الشخصيات الفلسطينية المقيمة في دول الخليج، والتي أدت التفاهمات بينها إلى تشكيل مجموعات نضالية باسم حركة فتح، انخرطت فيما بعد بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي كان يترأسها المرحوم أحمد الشقيري، ثم في عام 1969م تولت حركة فتح قيادتها برئاسة الأخ ياسر عرفات (رحمه الله).
ومن الجدير ذكره، أن قطر ومنذ حصولها على الاستقلال في سبتمبر 1971م، كانت من الدول التي تمَّ فيها افتتاح مكتب لمنظمة التحرير، والذي تحول إلى سفارة بعد إعلان قيام دولة فلسطين في مؤتمر الجزائر 1988م.
وعندما تمكنت قيادة منظمة التحرير من العودة إلى أرض الوطن بعد توقيع اتفاقية أوسلو في سبتمبر 1993م، وإنشاء السلطة الوطنية في عام 1994م، قام أمير قطر سمو الشيخ حمد بزيارة الأراضي الفلسطينية في عام 1999م، والتقى في غزة بالرئيس الراحل ياسر عرفات.
إن هذه المآثر التي نذكرها، إنما هي اعتراف منَّا بما لقطر وأميرها من أيادٍ بيضاء على شعبنا وقضيتنا، وأننا لن ننسى لذوي الفضل فضلهم.. وللذين كانوا يتعمدون التشكيك بدوافع المساعدات القطرية لغزة، ويحاولون – دائماً - تصنيفها في دائرة العمل لاحتواء حماس؛ الحركة والحكومة، نرد عليهم بالقول: إن قطر قدَّمت نصف مليار دولار لجهود إعادة الاعمار في لبنان بعد الحرب العدوانية عليه في صيف 2006م، ولم نسمع بأن الهدف كان هو احتواء قطر لحزب الله والحكومة اللبنانية، وأيضاً قامت قطر بتقديم مساعدات وقروض بمليارات الدولارات لدول الربيع العربي، فلم تبخل على أحد، ولم نسمع بأنها قامت بفرض شروطٍ مقابل تلك الهبات والعطايا المالية.. ولا ننسى كذلك أن قطر قدمت أيضاً دعماً لحكومة د. رامي الحمد الله، فالعطاء لفلسطين لم يقتصر على حماس وحدها، بل إن السلطة الفلسطينية وحركة فتح كلن لعا من هذا المال نصيب ونالها من الحب جانب كما يقولون في أمثالنا الشعبية.
السياسة القطرية تجاه القضية الفلسطينية
تاريخياً، بقيت القضية الفلسطينية حاضرةً بقوة في السياسة القطرية، وربما يستغرب البعض مواقف قطر المؤيدة والمؤازرة للفلسطينيين، ويعتقد أنها فقط وليدة السنوات الأخيرة؛ أي بعد فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية في يناير 2006م.. وهذا ظلم وإجحاف بحق هذا البلد الكبير بمواقفه وأفعاله، ويمكننا إدراك ذلك بالعودة إلى ما تحدث به أمير قطر عام 1974م، حيث قال: "المهم هو القضية الفلسطينية، إنها قضيتنا مثلما هي قضية الفلسطينيين، إنها محور سياستنا وعلاقتنا مع الدول، ونحن عندما نضع ميزانية التنمية نحسب أولاً حساب التزاماتنا بشأن القضية الفلسطينية".. وحتى في آخر قمة عربية في شهر مارس 2013م، والتي ترأستها قطر، أعاد رئيس الوزراء ووزير الخارجية – آنذاك - الشيخ حمد بن جاسم التأكيد على سياسة بلاده الراسخة تجاه فلسطين، بالقول: "إن القضية الفلسطينية كانت وستبقى قضيتنا المركزية، حتى يتوفر لها الحل العادل والدائم والشامل الذي يحقق للشعب الفلسطيني كامل حقوقه المشروعة؛ وفي مقدمتها الحق في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف". 
وإذا قمنا بجولة في السياسة القطرية ومواقف أميرها السابق سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني على مدار أكثر من عشرة سنوات، فسنجد تطوراً في العلاقة، وتميزاً في العطاء، وتظهيراً لمواقف لا يمكن أن تغيب عن عين المشاهد داخل ساحتنا الفلسطينية.. ولنبدأ بالانتفاضة الفلسطينية عام 2000م، حيث وقفت قطر إلى جانب الشعب الفلسطيني خلال أحداثها، واستنكرت حكومتها الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، واعتبر الشيخ حمد بن جاسم وزير الخارجية أن الأحداث الخطيرة في الأراضي الفلسطينية كشفت عن الوجه الحقيقي للحكومة الإسرائيلية ورفضها للسلام، واستخدامها كل أنواع القهر لفرض السلام الذي تراه، وأضاف بأن فشل مجلس الأمن في إصدار قرار لتوفير حماية دولية وإرسال مراقبين دوليين كان بمثابة رسالة خاطئة إلى إسرائيل للاستمرار في سياستها العدوانية.
وقد قامت قطر بتقديم الدعم المالي الذي يحفظ استقرار ميزانية السلطة، كما أن وزير خارجيتها لعب دوراً مهماً وراء الكواليس في فك الحصار عن مقر الرئيس الراحل ياسر عرفات ب رام الله خلال عملية الدرع الواقي في ربيع 2002م، وأيضاً خلال حشد مواقف الدول لصالح دعم مطلب السلطة بالتوجه للأمم المتحدة في سبتمبر 2012م، وقد رحبت قطر بما وصفته القرار التاريخي الذي اتخذته الجمعية العامة برفع مكانة فلسطين بالأمم المتحدة إلى دولة بصفة مراقب غير عضو، باعتباره خطوة هامة على طريق استعادة الحقوق الفلسطينية. 
وقد لعبت قطر دوراً هاماً في وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نوفمبر 2012م (حرب حجارة السجيل)، حيث بذلت إلى جانب تركيا ومصر جهوداً ضخمة لمنع أن تمتد يد إسرائيل لحرب برية، وذلك من خلال القيام باتصالات مكثفة مع قادة الدول ومع المجتمع الدولي بهدف وقف العدوان على غزة.
وإذا تابعنا المواقف القطرية كلها من حيث تقديم المساعدات المباشرة للقضية أو عبر صناديق الدعم العربية في الجامعة، فإننا سنجد بأن قطر كانت تتقدم دائماً خطوة على كل الصف العربي.
 شكراً لقطر.. وتحية إكبار لأميرها
في أكتوبر 2012م، جاءت المنحة القطرية للشعب الفلسطيني تعبيراً عن أول توجه عربي حقيقي لكسر الحصار عن حكومة غزة.
مهما قلنا عن هذه النخوة والمروءة القطرية فلن نفي أميرها السابق سمو الشيخ حمد حقه من الشكر والثناء، لقد أكدت قطر المرة تلو الأخرى أن مقامات الدول وقامات زعمائها ليس بكبر حجمها، ولا بتعداد سكانها أو ضخامة ثرواتها، ولكن بمواقفها وسرعة تحركاتها ونخوة عطاياها تجاه مواجع وحاجات شعوب أمتها.. من هنا، فإن المشهد القطري في الحضور الفلسطيني أوسع بكثير من منحة الأمس القريب.. إن قطر وأميرها كانوا أول من تقدم بإرسال خمسين مليون دولار منذ الشهور الأولى لتسلم حكومة إسماعيل هنية مقاليد الأمور عام 2006م، ثم أعقبوها بخمسين أخرى عندما خاطب رئيس الوزراء سمو الأمير هاتفياً في مناشدة إنسانية للتخفيف عن معاناة قطاعي التعليم والصحة، وجاءت استجابة الأمير بأسرع من لمح البصر، ثم انهمر الغيث بمجموعة من المنح والعطايا والالتزامات، حيث تعهد سمو الأمير القطري بتقديم ثلاثين مليون دولار شهرياً مع مكرمات أخرى.  
قطر في عين العاصفة.!!
من الملاحظ أن هناك حساسيات سياسية واضحة في المنطقة تجاه دولة قطر, حيث إن معظم دول الخليج تنهج سياسات تتطابق مواقفها – بشكل عام - مع المملكة العربية السعودية، والتي تشهد علاقاتها مع قطر في كثير من الأحيان حالة من التنافسية وتناقض الأدوار.
من هنا، فإن العلاقة المتميزة التي جمعت بين الأخ خالد مشعل؛ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وسمو الشيخ حمد؛ أمير دولة قطر، ربما كانت وراء وضع الحركة في دائرة الاستهداف لدي بعض الدول الخليجية.
 لم يكن أحد في حركة حماس أو الحكومة في غزة يتمنى أن يسود التوتر علاقاتها مع أي من دول المنطقة وخاصة الخليجية منها، أو حتى أن تظهر وكأن ميولها تتجه نحو هذا الطرف أكثر من غيره من الأطراف الأخرى، ولكن مواقف سمو الأمير القطري المتميزة، من حيث دعمه الكبير لاحتياجات الساحة الفلسطينية، ومواقفه السياسية الحريصة على جمع الكلمة ووحدة الصف الفلسطيني، وكذلك التحركات النشطة للخارجية القطرية لرفع الحصار عن قطاع غزة, وسعيها الدؤوب لرفع الفيتو الأمريكي عن حكومة الوحدة الوطنية, ثم المبادرة الكريمة التي قام بها سمو الأمير الشيخ حمد في فبراير 2012م لتحقيق المصالحة الوطنية، وذلك بدعوة كل من الرئيس محمود عباس والأخ خالد مشعل للدوحة، واقناع الطرفين بتوقيع اتفاق تفاهم لتشكيل حكومة انتقالية برئاسة الأخ أبو مازن، وهو ما نشهد تحققه اليوم في الحكومة التي يقودها د. رامي الحمد الله، على أن يعقبها إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية تنهي حالة الانقسام بالكامل، وتؤدي الي قيام حكومة شراكة سياسية بين جميع فصائل العمل الوطني والإسلامي.
لا شك أن مثل هذه التحركات الكبيرة التي تقوم بها قطر في ظل الصراعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط, تثير حفيظة بعض جيرانها الخليجيين أو بعض الدول المركزية في المنطقة.. من هنا، يمكننا فهم لماذا أضحت حركة حماس في دائرة الاستهداف، وتوجيه الاتهام لها بأنها تدور في فلك السياسة القطرية أو أنها تتحرك في مربع التحالفات التي تشكل قطر أحد محاورها بالمنطقة.
إن المراقب للمشهد العربي لن تغيب عنه مناقب سمو الأمير القطري - السابق -الشيخ حمد بن خليفه، فهو رجل عربي أصيل، حافظ على سياسة ثابتة انتصر فيها لقضايا الأمة, وقد ظهرت مواقفه الرجولية والتي كانت تعكس رؤية حكيمة في أكثر من مكان تجاه التعاطي مع قضايا الأمة، وسعيه الدؤوب لتحقيق المصالحة والأمن والاستقرار في السودان ودار فور وفي لبنان وتشاد والصومال، وكذلك في دعم بلاده الواسع للحراك الشعبي وثورات الربيع العربي في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا. 
من الذاكرة: لقاءات ومواقف لا تنسى
خلال عملي كمستشار سياسي لرئيس الوزراء أو كوكيل في وزارة الخارجية اتيحت لي فرصة اللقاء بالقيادة القطرية، كما أن مشاركتي في اجتماعات مجلس الوزراء منحتني الكثير من المعطيات للاطلاع على الجهود والعطايا والمواقف للعديد من الدول التي كانت تتعامل معنا.. لا شك أن سمو الشيخ حمد بن خليفة كان في صدارة الزعماء المتابعين للشأن الفلسطيني، من حيث الاتصالات والتواصل، وكان هو المفتاح لحل الكثير من الأزمات المالية والإنسانية والسياسية التي كنا نتعرض لها.. لقد كنت شاهداً على الكثير مما قدمته قطر وأميرها، وهنا اسجل بعضاً من تلك المواقف واللقاءات كشهادة مني للتاريخ؛ لأن غرس المعروف لا يضيع كسبه، ولا يُنسى ذكره، وكما قالوا: "لا يذهب العُرف بين الله والناس". 
لقاء في الديوان الأميري بالدوحة
بعد تشكيل حكومة إسماعيل هنية في مارس 2006م، قمت أنا ورئيس الديوان د. محمد المدهون بجولة عربية ودولية مع نهاية شهر يونيه، اشتملت على زيارة كل من مصر وسويسرا وسوريا والإمارات وقطر، حيث تسنى لنا اللقاء بالعديد من المستويات السياسية في تلك البلاد.. في الحقيقة، كانت مقابلة سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني؛ أمير دولة قطر، هي من بين الأكثر حميمية وأخوية وصدقية في التعهد والوفاء.. لقد استقبلنا سمو الشيخ حمد في الديوان الأميري بالدوحة مرحباً، وجلس ينصت لحديثنا حول الوضع في غزة، والعلاقة مع إخواننا في حركة فتح ومع الرئيس أبو مازن، وأيضاً حول الموقف الأوروبي وما تحمله زيارتنا لسويسرا من معاني وأسرار، وأخذنا الحديث باتجاه إيران؛ دورها ومواقفها، والموقف الأمريكي الرافض للتعامل مع حكومة إسماعيل هنية، وإمكانيات الدور الذي يمكن أن تلعبه قطر للتخذيل عن الحكومة وحركة حماس.
بصراحة، لقد شعرت في ذلك اللقاء بأنني أتحدث مع أخي الأكبر، مع زعيم متابع لهموم أمته، وأن لفلسطين وشعبها وقيادتها مكانة خاصة في قلبه.
حقيقة، لقد شعرت خلال جلستنا مع سمو الشيخ حمد بأنني في ضيافة أخٍ كريم، حيث إننا ما قصدناه في أمر إلا وكان الاستعداد والترحيب.. وشهادة لله، أن سموه قد أنجز - بوفاء عظيم - كل ما دوَّناه في ذلك اللقاء، وكان آخره هو زيارته التاريخية لقطاع غزة في 23 أكتوبر 2012م، حيث تعهد سموه بإعادة ما دمرته حروب إسرائيل العدوانية على القطاع، وقدم مشكوراً تبرعاً مالياً بأكثر من 450 مليون دولار، لبناء "مدينة حمد" وأحياء سكنية أخرى للأسرى المحررين، وكذلك العديد من مشاريع الإعمار والبنى التحتية، والتي ستظل شاهدة على شهامته وكرمه، وعلامة بارزة تتلألأ في سماء قطاع غزة، تقول: "مرَّ.. وهذا الأثر". 
دبلوماسية قطرية لتسويق الحكومة 
بعد تعثر كل محاولات فتح الطريق أمام الحكومة العاشرة التي كان يترأسها الأخ إسماعيل هنية، دخلت الحالة السياسية الفلسطينية في أزمة تسويق هذه الحكومة لدى الإدارة الأمريكية، حيث وضع الرئيس السابق جورج بوش (الابن) فيتو عليها، الأمر الذي يعني صعوبة إقلاعها لدى أي طرف أوروبي، كما أن إسرائيل وضعت كل العراقيل في طريقها، مما جعل من الصعب التمكين لها، وقلل بالتأكيد من فرص نجاحها.  
تحركت الدبلوماسية القطرية، ممثلة بوزير خارجيتها آنذاك؛ الشيخ حمد بن جاسم، مع البيت الأبيض والكونجرس الأمريكي، في محاولة لإقناعهم بجدوى الانفتاح على الحكومة الجديدة، ومنح الفرصة للفلسطينيين لتفعيل ديمقراطيتهم الوليدة.
في شهر رمضان (أكتوبر) 2006م، قام الشيخ حمد بن جاسم بزيارة مفاجئة إلى غزة، حيث التقى الأخ إسماعيل هنية، ودار بينهما نقاش طويل حول رؤية حماس للحكومة وبرنامجها السياسي، وقد تم التوصل معه إلى مجموعة من الصيغ والتفاهمات، التي حملها معه إلى الأخ الرئيس محمود عباس والإدارة الأمريكية.. ولكن يبدو أن سقف ما كان يطلبه الأمريكان كان أبعد مما يمكن أن تقبل به حماس.
حرب الفرقان وجهود الإغاثة القطرية 
باغتنا الإسرائيليون بعمليتهم العسكرية الواسعة صبيحة يوم 27 ديسمبر 2008، والتي استخدموا فيها طيرانهم الحربي بشكل كثيف، مما أوقع مئات الشهداء وألاف الجرحى، وصارت سماء غزة مغطاة بدخان الفسفور الأبيض، وأرضها تناثرت عليها أشلاء الأجساد والحجارة.. وقبل أن تنطلق صيحات الاستغاثة وطلبات المساعدة، كانت شحنات الدواء قد وصلت إلى مطار العريش من قطر، وأخذت طريقها إلى معبر رفح ، بانتظار نقلها إلى مستشفيات قطاع غزة.. ومع حجم الضحايا التي سقطت، والدماء التي سالت أبطحاً على ثرى قرى ومدن القطاع، أضحت الحاجة للدواء عاجلة، فكانت المبادرة القطرية بإرسال طائرة تحمل الدفعة الأولى من المساعدات الطبية، والتأكيد على سرعة وصولها وذلك بإشراف السفير القطري السيد سيَّار عبد الرحمن المعاودة، والذي آثر أن يرابط في المعبر لما بعد منتصف الليل بهدف الاطمئنان على دخول كل المساعدات إلى غزة بدون تأخير.
لم تكتف قطر بما قدمته عبر الجانب المصري، بل قامت بتحريك مؤسساتها الإغاثية مثل "قطر الخيرية" و"الشيخ عيد الخيرية" لاستكمال جهود تقديم الدعم والمساعدة إلى قطاع غزة.
الوساطة القطرية لإنهاء القطيعة بين الأردن وحماس
في يناير 2012م، وصل الأخ خالد مشعل؛ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إلى عمان بصحبة ولي عهد قطر – آنذاك - الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وقد شكلت تلك الزيارة - وهي الأولى منذ استبعاد الأخ أبو الوليد في عام 1999م - نقطة تحول وعلامة فارقة في العلاقات المقطوعة بين حماس والأردن، والتي اعتبرتها الحركة الإسلامية في الأردن أنها "تاريخية"، لأنها طوت صفحة الخلافات والتوجس التي سادت علاقة الأردن بحركة حماس.
لا شك أن هذه الزيارة التي وفرَّت دولة قطر فرص نجاحها كانت للحركة فتحاً مبيناً في علاقاتها العربية.
وفي قطر؛ القدس في العيون
خلال القمة الرابعة والعشرين في الدوحة، تبرع الشيخ حمد بن خليفة بمبلغ ربع مليار دولار لصندوق القدس.. ولعل هذه اللفتة الكريمة من سموه كانت بمثابة استجابة للنداء النبوي: "فإن لم تأتوه وتصلوا فيه، فابعثوا بزيت يُسرج في قناديله". 
إن هذا الموقف يحسب لقطر ولسمو الشيخ حمد، والذي كان في جوده وعطاياه كالريح المرسلة،  سبَّاقاً للخير حيث كان فعله – دائماً - يسبق قوله.. فهذا الصندوق هو "زيت القناديل"، وهو من أجل حماية القدس والمسجد الأقصى، ويهدف لتعزيز صمود أهلنا هناك، وإفشال مخططات المستوطنين في تهويد بيت المقدس.. وكما قدَّمت قطر للقدس والمسجد الأقصى، فقد جادت أيادي أميرها الشيخ تميم باحتياجات محطة كهرباء غزة من الوقود لإنارة ليل الحصار المفروض على القطاع، وقامت كذلك باستضافة أكثر من ثلاثين أسيراً محرراً على أراضيها، وتوفير الحياة الكريمة لهم.
ختاماً: الوفاء من مبادئنا
لقد لمسنا في قطر وفي سمو الأمير الشيخ حمد ونجله الشيخ تميم حساً قومياً، وشعوراً إنسانياً متميزاً تجاه فلسطين وأهلها، ولست مبالغاً إذا قلت إن كل منهما كان للفلسطينيين بمثابة "نخوة المعتصم"، حيث كان الشيخ حمد منذ الأيام الأولى التي تمَّ فيه فرض الحصار على غزة، هو أول من بادر بتقديم الدعم المالي لإغاثة "عمورية" قطاع غزة، وكانت فضائية "الجزيرة" وهي الأشهر في المجال الإعلامي الإقليمي والدولي، والمملوكة لدولة قطر، تعطي – دائماً - الأولية في التغطية لكل ما يمنح القوة المعنوية للشعب الفلسطيني والتعريف بقضيته إقليمياً ودولياً.
وحين تعرض قطاع غزة لكارثة الإعصار في العام الماضي، كان سمو الأمير تميم أول المبادرين استجابة لنداءات الإغاثة، وأكثرهم بالعطاء سخاءً لإنقاذ الضحايا وتعويض خسائرهم. لقد كانت قطر ممثلة بأميرها السابق سمو الشيخ حمد ليس فقط هي أول قطرات الغيث في قائمة أصحاب المنح والعطايا والمواقف الكريمة تجاه شعبنا الفلسطيني، بل ظلت أيضاً سيمفونية "ثم ينهمر"  تتردد في ظل أميرها الجديد سمو الشيخ تميم بن حمد، باعتبار أن هذا الشبل من ذاك الأسد، على رأي الأخ خالد مشعل، والذي أكد لنا في أكثر من مناسبة بأن السياسة القطرية في عهد سمو الشيخ تميم تجاه القضية الفلسطينية لن تتغير؛ لأن الأبن ماضٍ على خطى أبيه، وها هي الأيام والمواقف تثبت صدقية ذلك.
148

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد