منذ شهر بدت إسرائيل وكأنها بدأت تجهز للحرب، وأنه لا أحد يمكنه فرملتها إلا وقف الاندفاع الأميركي لعودة الاتفاق مع إيران وبما يشبه الابتزاز، كأنها تقول: «أمسكوني، وإلا فإنها الحرب». كانت الإنذارات قد بدأت منذ إعلان رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي، نهاية كانون الثاني، في خطاب ألقاه أمام معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب.
في خطابه المفاجئ آنذاك، قال كوخافي: إن العودة لاتفاق 2015 أمر سيئ وخاطئ من وجهة نظر عملياتية وإستراتيجية، والأهم أن كوخافي في ذلك الخطاب أعلن «أن الجيش الإسرائيلي يجدد خطط العمليات المرسومة لمواجهة إيران». هذا الخطاب ظهر كنوع من التحدي للإدارة الأميركية التي كانت قد تسلمت مهامها قبل أسبوع من خطاب كوخافي، ما أثار نقاشاً حاداً في إسرائيل بين من يدعمون ما قاله، ومن بينهم نتنياهو نفسه الذي اعتبر صمته موافقة صريحة على ما قاله رئيس أركانه، فيما كان للنخبة والكتاب رأي مختلف، محذرين من مسار الصدام مع الولايات المتحدة الذي يفتتحه رئيس الأركان.
في بداية هذا الشهر، عقد نتنياهو اجتماعاً مع عدد من المسؤولين الأمنيين والعسكريين، تم خلاله مناقشة الاستعداد لهجوم ضد إيران، وضم الاجتماع وزير الدفاع غانتس وكوخافي ومسؤولين في وزارتي الجيش والمالية، حيث نوقش تحويل الأموال من القواعد الأمنية للطوارئ لصالح خطط عملياتية متوقعة ضد إيران. وبعده بيومين كان نتنياهو يدعو المجلس الوزاري المصغر «الكابينيت» لبحث المستجدات المتعلقة بالشأن الإيراني كما قالت وسائل إعلام إسرائيلية، حيث بحث رفع مستوى تخصيب اليورانيوم، والتخدير الأميركي بأن إيران على مسافة أسابيع من امتلاك سلاح نووي واحتمال عودة سريعة للاتفاق النووي. هكذا كانت تغطي إسرائيل حملتها الدعائية، والتي أغلب الظن لم تكن عفوية بل منظمة.
منتصف الشهر، دعا نتنياهو إلى اجتماع مع طاقمه لمناقشة المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران، وأيضاً لمناقشة إستراتيجية العمل ضد العودة لهذا الاتفاق. وكان ذلك أثناء إحجام الرئيس الأميركي جو بايدن عن الاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلي، وتعيينه طاقمه وأبرزهم، بل أهمهم، روب مالي كمسؤول عن هذا الملف، ما أثار حفيظة إسرائيل التي اعتادت على إملاء البيت الأبيض برنامج العمل لأربع سنوات، ولم تفق من صدمة التجاهل وعودة ظل أوباما لطاقم الإدارة الجديدة.
تأجل الاجتماع لأيام إثر اتصال بين بايدن ونتنياهو، ولكنه عقد في الثاني والعشرين من الشهر، ما يعكس أن الاتصال الهاتفي لم يعط ما يكفي من الضمانات لإسرائيل، والتي استمرت بالتحضير كأنها على وشك الحرب. وهو الأمر الذي لن يحدث من جهة إسرائيل، فمنذ سنوات لم تتوقف إسرائيل عن التهديد بالهجوم، لكن دوماً كان قادة أجهزة الأمن يرفضون هذا التوجه لأسباب كثيرة ليس مجال عدها، ولكن النتيجة والتقديرات تقول: إنه ليس لدى إسرائيل قدرة على تحمل مسؤولية حرب من هذا النوع، وإلا لفعلتها دون هذا الضجيج مثل ضرب المفاعل العراقي «تموز» عام 1981، ومفاعل «دير الزور» السوري عام 2006.
ما الذي تريده إسرائيل بالضبط؟ هل تريد عدم حصول إيران على السلاح النووي؟ إذا كان الأمر كذلك فالاتفاق هو الكفيل بعدم حصولها، فلماذا إذا يعارض نتنياهو هذا الاتفاق ويحدث كل هذه الجلبة؟ صحيح أن نتنياهو يعتبر أن الملف الإيراني هو ملف حياته كما يطلق عليه في الصحافة الإسرائيلية، واستطاع إحداث قدر من التخويف للمجتمع الإسرائيلي بتركيزه على هذا الملف منذ تسلم رئاسة الحكومة، وكذلك استطاع استثمار هذا الخوف في الانتخابات، لكن في الأمر شيئاً آخر.
في لقائه الأول مع الرئيس أوباما في أيار 2009، حدث الصدام الأول، إذ أراد نتنياهو أن يملي أولويات العمل على الإدارة الأميركية بأن تبدأ بالملف الإيراني، فيما كان الرئيس أوباما يريد البدء بالملف الفلسطيني، وهنا كانت عقدة نتنياهو المركبة؛ حيث بذلك يجرده أوباما من مسألة التخويف التي اعتاش عليها وأيضاً يضع الملف الفلسطيني على الطاولة، في حين أن نتنياهو عمل جاهداً على إزاحته عن جدول الأعمال الدولي.
وطوال سنوات حكم أوباما، لم يتوقف الحديث عن ضرب إيران، وفي لحظة من اللحظات كان يبدو للمتابعين أن الطيارين الإسرائيليين على وشك الإقلاع نحو طهران. عارضت الرباعية الأمنية الإسرائيلية، أي رؤساء الموساد والاستخبارات والأركان وقائد سلاح الطيران، آنذاك، فقام بتغييرها، ثم عارضت الرباعية الجديدة وهو نفسه آنذاك الذي أشرف على ضرب مفاعل دير الزور «أميرايشل». لكن نتنياهو لم يهدأ عن الحديث، وها هو الآن يعود لنفس الأسطوانة مدركاً أن إسرائيل لو تتمكن من ذلك لفعلتها منذ سنوات، ومدركاً أيضاً أن إيران حتى لو امتلكت القنبلة الذرية لن تضرب بها إسرائيل لسبب بسيط، هو أن إسرائيل تملك غواصات نووية تجوب المحيطات وهذه لا تقترب من السواحل الإسرائيلية، وتلك مصممة لما يعرف بـ»ضربة شمشون»، أي عندما تعتدي دولة على إسرائيل تهدد وجودها أو تمسحها، تتكفل الغواصات بمسح تلك الدولة وهذا ليس سراً، وإيران حتى لو امتلكت القنبلة لن تغامر بأي شكل باستهداف إسرائيل وانتظار تلقي الصواريخ النووية.
لكن في الأمر ما هو أبعد من ذلك، وهو إحداث هذا القدر من الفوضى والصراخ المفتعل، وهدفه تركيز الانتباه الدولي والأميركي على الموضوع الإيراني للتغطية على الملف الفلسطيني والحقوق الفلسطينية التي تصر إسرائيل على التنكر لها، واستمرار اغتصابها وتوسعها الاستيطاني ورفض المفاوضات والدولة الفلسطينية، وما يحدث حالياً هو عملية صرف الأنظار ومشاغلة الإدارة الأميركية الجديدة عن الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، خصوصاً أن إدارة بايدن أرسلت ما يكفي من الإشارات للعودة لحل الدولتين الذي كاد أن يقضي عليه نتنياهو وترامب بـ» صفقة القرن ».
سيستمر نتنياهو بمحاولته مشاكسة الإدارة الأميركية بالملف الإيراني ولن يتوقف، وبالنسبة له ستتحقق مسألتان ربما ينجح بكسب مزيد من الوقت وهو يصرف الأنظار عن الاحتلال ويحلم أن يمرر أربع سنوات بايدن، وأما إذا ما نجحت الإدارة الأميركية في عقد اتفاقها مع الإيرانيين، فهذا يعني أن إسرائيل ستقبل الأمر على مضض وهي مرغمة أو بتنازل كبير منها، وعندما تنتقل الإدارة الأميركية للملف الفلسطيني يكون وضع إسرائيل لا يحتمل مزيداً من الضغط في ملف آخر وهو الملف الفلسطيني. وحينها ينبغي على البيت الأبيض أن يسعى لإرضاء إسرائيل فلا يجوز له أن يضغط تل أبيب بكل الملفات، أليس كذلك؟ وتلك مناورات ينبغي أن ينتبه لها الفلسطينيون والأوروبيون والأهم الإدارة الأميركية...!
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية