لا يكاد يخلو بيت فلسطيني من حكاية عن ياسر عرفات، إنها تلك الحكاية الشخصية جداً الذي يمكن لفرد في العائلة أن يسردها عن الرجل الذي بات حضوره في حياة الفلسطينيين لخمسة عقود من الزمن جزءاً أساسياً من قضيتهم. فياسر عرفات بقدر ما كان زعيماً ومؤسساً للوطنية الفلسطينية بعد النكبة بقدر ما كان قائداً اجتماعياً وحميماً في نسيج شعبه. تلك الصلة التي جمعته بهؤلاء الأفراد ليس بوصفهم جماعة وطنية بل بوصفهم أفراداً بكينونات منفصلة هي ما جعلت حضوره الأثيري دائم الإشعاع كلما خطرت ذكراه على بال أحدنا. وربما أنه الشخص الأكثر تأثيراً في تاريخنا الوطني وربما ربطته علاقات مهولة مع زعماء بات الكثير منهم في كتب التاريخ، وربما أنه نجح في الحضور على صفيح ساخن وبقي بطلاً في مشاهد متقلبة، لكنه إلى جانب كل ذلك ظل المواطن الأقرب لكل مواطني بلاده أينما كانوا.
عرفات الآخر هو عرفات الذي يأتي في حكايات البسطاء عن الرجل الذي احتضنهم وكان بينهم في كل وقت شدة. وفي الليلة الظلماء لا يفتقد البدر فقط بل يتم البكاء استجداء للسماء حتى تعيد رسمه في كبدها لو لوهلة. وهذا لا يحدث. ومع هذا فإن الحكاية الشخصية هي الأكثر اندماغاً في وعي الناس وذاكرتهم، ليس عن الماضي بل عما يرغبون في البحث عنه في المستقبل. فعرفات لم يكن مَجازاً بل حقيقة، وهذا ما يجعل التصاق الحكاية الشخصية بالحكاية الجماعية والوعي الفردي بالوعي العام أكثر وضوحاً في حالته. فهو زعيم شعب وهو زعيم فردي لكل فرد. حتى من اختلفوا مع عرفات كلما مر الوقت اكتشفوا خطأهم في الاختصام مع الرجل الذي لم يعرف إلا فلسطين. وربما كان هو أكثر المتسامحين مع خصومه. حتى هؤلاء الذين أساؤوا له شخصياً وسخروا منه وحاولوا المساس بقدره ومكانته. لم يكن ثمة شيء شخصي بالنسبة له، فالقضية الوطنية أكبر من كل تلك التفاصيل المرتبطة بنا. من هنا فإن عرفات ذاته الذي كان يحرص على الود وعلى نسج العلاقات كان يدرك أنه لا شيء أكبر من القضية الأكبر والأهم لشعبه.
عرفات الآخر هو عرفات الذي يمكن لأي فرد أن يسرد عنه حكاية ويستعيد عنه بعض التفاصيل. إنها تلك الحكايات وتلك التفاصيل التي لا يعرفها إلا من يسرد تلك الحكاية. وربما تشترك حكايات آلاف الناس عن عرفات في الكثير من الأشياء وفي بعض التفاصيل، لكنّ هناك تفصيلاً خاصاً تنفرد به كل حكاية، إنه ذلك التفصيل الذي لا يجعل منها مجرد صورة أخرى عن حكايات أخرى. حتى في أبسط تلك القصص هناك ما هو مختلف، المختلف الذي يتأسس على اختلاف عرفات ذاته وقدرته على المفاجأة وعلى اجتراح اللحظات الإنسانية بطريقة عجيبة. كل منا له ما يميز قصته عن عرفات أو مع عرفات أو حول عرفات، ودائماً هناك عرفات واحد وعرفات متعدد. هذا من أسرار الرجل الذي يتعرف الأطفال على صورته بعد عقد ونصف العقد من رحيله دون أن يحكي لهم أحد عنه. وليس المفاجأة في قدرة الجيل الجديد على التعلق بصورة الرجل الذي يعلقها الناس في بيوتهم ليس خوفاً ولا تملقاً ولا رياءً بل حباً وحباً جماً. فعرفات ظل معلقاً في صدور البيوت وظلت الأجيال التي ولدت بعد رحيله تعلق صورته وتحملها وتنظر إليه بحنين لا يتوقف. الحنين الذي لم يخبر صاحبه من يحن إليه، لكنه يشعر به مع هذا. إنه الحكاية العرفاتية العجيبة وإنها الحكاية التي تجعل لكل فلسطيني حصة في عرفات.
نعم هذا الشعور هو ما يجعل استذكار القصص الشخصية جزءاً من الالتصاق بالذات. فالناس لا تتذكر بل تعيد التأكيد على حضورها في متن الحكاية الجماعية ومن أصدق شاهداً على هذه الحكاية الجماعية أكثر من عرفات. لذلك فإن استجلاب تلك القصص الشخصية بقدر ما يحمله من حنين بقدر ما يشير إلى رغبة الناس في أن تكون جزءاً من المسيرة العامة للحكاية. عرفات هو أصل تلك الحكاية وهو المقاتل الأول في معركة الوجود. وعليه فإن سيرة عرفات تشبه إلى حد كبير سيرة كل فرد فينا. إنها سيرة البحث عن الوجود رغم كل الصعوبات والمعيقات.
ما زلت أتذكر كيف كنا ننظر بانبهار لصورة الرجل في نشرات الأخبار المختلفة، وإذا ما أتي صوته ببعض العبارات نستمع بشغف ونبحث عن كل صوت حتى لا نفقد شيئاً. وحين كنا نشتري قراطيس الفلافل كان يستخدم ورق الجرائد للفها، ثم نفردها على الأرض ونكتشف أن ثمة صورة لعرفات في تلك الصفحة فنزيح كل الأقراص عن صورته، ونظل نأكل ونحن نبحلق في الصورة. كأنه يأكل معنا يشاركنا طعامنا البسيط. كأننا نصر على أن يكون معنا، فرداً آخر في العائلة. إنه عرفات دائم الحضور في حياتنا وفي استعادتنا لماضينا وبحثنا عن الحلم الذي أيقظه فينا حين حمل بندقيته مع رفاق دربه وأطلق شرارة الثورة.
عرفات الآخر إلى جانب كل الحكايات الشخصية التي تزخر بها ذكريات الناس، كما صوره التي تملأ ألبوماتهم الشخصية، هو عرفات الإنسان الذي يجعل من وجوده أمراً مختلفاً لدى الجميع. أيضاً هناك مئات الحكايات عن عرفات ومواقفه بعيداً عن السياسة، مثلاً قصصه مع المثقفين، مع الصحافة، مع الشباب ومع الأطفال، وحتى تلك المرتبطة بمواقفه الإنسانية. أظن أن ثمة الكثير الذي يجب عمله من أجل الإحاطة بعرفات الذي جعل من نضالنا نضال شعب يبحث عن الحرية بدلاً من أن نكون مجرد غاضبين على ضر مسّهم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد