"رفاقي، قد يشنقوني، وهذا ممكن، وإن شنقوني فلن يميتوني. فسأبقى حياً أتحداهم ولن أموت، وتذكروني سأبقى حياً وفي قلوبكم نبضات". كلمات حفرها الشهيد على جدران زنزانته قبل أن يرحل دون عودة.
صدقت تنبؤاته، شنقوه في زنزانته الضيقة، وقتلوه عمداً بعيداً عن وسائل الإعلام. لكنهم أخطأوا حينما اعتقدوا أن بقتله، وتغييبه الأبدي عن الحياة، يمكن أن يقتلعوه من قلوب رفاقه وأبناء شعبه، فرحل جسداً ولم يمت، وبقىّ حياً في قلوب رفاقه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأبناء شعبه، بل في قلوب أحرار العالم أجمع، وهل يموت الشهداء العظام ؟.
انه الأسير "إبراهيم الراعي" الذي اختار الصمود والانتصار وفضَّل التضحية بحياته، على الاعتراف والانكسار وتقديم المعلومات المجانية عن رفاق السلاح والمقاومة، والبقاء على قيد الحياة، فقتلوه انتقاماً، لكنه لم ولن يموت.
يصادف اليوم السبت الحادي عشر من نيسان، الذكرى الـ27 لاستشهاده، في أقبية وزنازين التحقيق في السجون الإسرائيلية، ومنذ استشهاده لم يرحل يوماً عن قلوب رفاقه الذين كتبوا له الأناشيد والأشعار والقصائد، وسمعناهم في السجون وخارجها يرددون بفخر وعزة، "أُصمد أُصمد يا رفيق مثل الراعي في التحقيق"، ليشكل اسمه عنواناً للصمود، وحضوره دعوة لشحن الهمم وتحقيق الانتصار على الجلاد.
أرادوا بقتله، أن يقتلوا روح الصمود والمواجهة في السجون، ويحطموا ما يُعرف بمقاومة الجلاد والسجان خلف قضبان السجون وفي أقبية التحقيق، وأن يحطموا شعار "الاعتراف خيانة" ذاك الشعار الذي رفعته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. فتحول موته إلى قوة معنوية عظيمة وفي قلوب رفاقه نبض الحياة والتحدي، قادت إلى استنساخ تجارب مماثلة لتجعل من ثقافة الصمود قاعدة ومنهج.
"أُصمد أصمد في التحقيق"، شعار يجب أن يتسلح به كل مناضل، فهو أقصر الطرق للعودة إلى البيت. فبالصمود ستعود منتصراً، إما منتصب القامة ومرفوع الهامة تمشي، أو محمولاً على الأكتاف وفي قلوب الملايين حياً للأبد، وتاريخاً تتناقله الأجيال و تتوارثه الأزمنة، وفي كل الأحوال أنت منتصر كالشهيد إبراهيم الراعي وكنيته "أبى المنتصر".
سلام عليك أيها الشهيد الطاهر، سلام عليك وأنت فينا تقاوم، سلام عليك وأن تسكن قلوبنا وعقولنا، وفي وجداننا تستوطن، سلام عليك أيها الشهيد الأسير الذي تحدى وانتصر، صمد ولم يحرك عضلة لسانه، ليسطر انتصاراً على جلاديه، فيتحول إلى رمز وأسطورة.
ولم يكن الشهيد الأسير " إبراهيم الراعي " يصل إلى هذه المكانة وأن يسطر تلك التجربة وأن يضحي بحياته من أجل الآخرين ، لولا تسلحه بقضيةٍ عادلة، ومبادئٍ راسخة وقناعةٍ بحتمية الانتصار وإلمامه الكامل بكل أساليب التحقيق التي يمكن أن يتعرض لها وأن تمارس ضده.
وللصمود والمقاومة رموز، ونحن شعب يعشق المقاومة، ويحفظ للرموز مكانتها في القلوب، وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والحزبية، وأبي المنتصر هو واحد من رموز المقاومة والصمود. بل ويُعتبر من أبرز رموز الصمود. صمود حتى التضحية، وتضحية حتى الشهادة، وشهادة بعد انتصار على الجلاد وظلمه في أقبية التحقيق رغم القيد والقهر .
ولد الشهيد الأسير " ابراهيم الراعي " أبو المنتصر " عام 1960 م في مدينة قلقيلية، وفي العام 1978م اعتقلته المخابرات الإسرائيلية، وخاض أول تجربةٍ في التحقيق والتي استغرقت أربعة شهور، وبالرغم من أنها الأولى إلا انه انتصر فيها، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات على تهم لم يعترف بها، وكانت هذه السنوات الخمس محطةً للإعداد والبناء والتثقيف الذاتي. فكان السجن له جامعةً تنقل بين فصولها، وقرأ العديد من كتبها، والدراسات والتجارب الثورية المتوفرة فيها، واستفاد مما هو في أدمغة اساتذتها، ومع الوقت أصبح أحد أبرز المثقفين في سجن نابلس القديم، ويقدم المحاضرات ويدير الجلسات، بل امتاز أيضاً بالكتابة حيث امتلك قلماً سيالاً يتسم بالسلاسة وترابط الأفكار والتحليل والكلمات الثورية المعبرة والمنتقاة ومع مرور الشهور والسنوات أصبح إبراهيم إسماً ذو مكانةٍ مميزةٍ بين رفاقه .
وفي أوائل الثمانينات وفي خطوة يائسة من قبل الاحتلال لتلميع صورة روابط القرى المهترئة والتي شكلها كبديل عن م . ت .ف أقدم على الإفراج عن بضع عشرات من الأسرى فكان إسم إبراهيم من ضمنهم ولم يكن قد أمضى سنوات حكمه ، وخلال الحفل الذي أقيم خصيصاً لذلك ، لم يتجرع إبراهيم المشهد ولم يقبل بحريته على حساب تعزيز مكانة روابط القرى ، فوقف وبكل جرأةٍ أمام جموع الحاضرين يلقي كلمة الأسرى والمفترض أن يتحرروا ، و مما قاله بأن هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم وأن م.ت.ف هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ... فما كان من سلطات الاحتلال إلا أن أعادته للسجن.. فعاد مرفوع الرأس ليكمل فترة حكمه .
أكملها وأطلق سراحه وانخرط في النضال مباشرة في ساحة النضال الأرحب وكان شعلةً من العطاء وتميز بقدرته العالية على التأثير والاستقطاب ومن ثم ألتحق بجامعة النجاح الوطنية فكان الطالب الملتزم والمتفوق والقائد النشط والمحرض وفي 29 يناير سنة 1986م ، اعتقل الشهيد بتهمة نشاطه المميز في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأطرها الجماهيرية والطلابية وصلته المباشرة بمجموعة اتهمت بقتل جنود إسرائيليين ، فخاض تجربة التحقيق الثانية بإرادةٍ أقوى ، ليعجز جهاز المخابرات كما المرة الأولى في انتزاع أي سرٍ منه وحافظ على الصمت المقدس .
لم يعرف الهدوء أو الإستكانة خلال فترة سجنه ولم يحد السجن من عطائه ونضاله و لم يستسلم للواقع ولم يسمح لحدود السجن الجغرافية وقضبانه الحديدية بأن تحدد مساحة نضاله وعطائه فكان حاضراً باستمرار بين صفوف رفاقه خارج الأسر يراسلهم ويخاطبهم ، يوجههم ويقودهم في نفس الوقت... وكانت المخابرات الإسرائيلية تدرك جيداً خطورته كما كانت تدرك بأن بداخله أسراراً وأسراراً ولو أفشى عنها لاستطاعت اعتقال العشرات من رفاقه و تدمير وتفكيك مجموعات عديدة وحل ألغاز العديد من العمليات التي نفذت ضدها .
وبعد حوالي عام ونصف وبالتحديد في منتصف عام 1987م ، نقل أبو المنتصر للتحقيق في سجن المسكوبية ب القدس لعلاقته بإحدى المجموعات والفعاليات خارج المعتقل واستمر التحقيق معه لعدة شهور وخلالها اعتقلت المخابرات الإسرائيلية أخته، وطفلته الرضيعة للضغط عليه، من أجل الضغط عليه لكنه ظل صامداً ولم يدلي بأية أسرارٍ وبعدها نقل إلى سجن نابلس للتحقيق أيضاً وخرج كالعادة من المعركة منتصراً وفي بداية عام 1988م نقل إلى سجن ايالون المخصص للعزل ليوضع في زنزانةٍ انفراديةٍ و يُمارس ضده أبشع أساليب التعذيب الجسدي والنفسي ، وفي الحادي عشر من نيسان من عام 1988 كان الموعد مع الشهادة .
استشهد ولم تسمح سلطات الاحتلال سوى لخمسة عشر شخصاً فقط من أهله بالمشاركة في جنازته ليلاً واستطاع أفراد العائلة الكشف عن الجثمان ووجدوا علامات الضرب المبرح في الرأس وفي أنحاء مختلفةٍ من الجسم ودماء نازفة من الأذن وجرح في الخاصرة وبقع زرقاء متورمة في الرأس ، مما يؤكد على أنه أعدم انتقاماً منه ...
ابراهيم الراعي.. مفخرة، ليس لرفاقه فحسب، وانما لنا جميعاً، ولقد عاش مناضلاً عنيداً معطاءً ، وأسيراً شامخاً صامداً ، منتصراً في كل المعارك التي خاضها ، ومات كالأشجار وقوفاً، وقوفاً كالأشجار.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية