ما جرى ويجري في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سورية ليس صدفة، وليس مجرد فصل من فصول الصراع الدائر في هذا البلد المنكوب الذي تقرر تدميره بشكل كامل قبل تطويعه وترتيب أوراقه. فالمخيم لم يكن للحظة واحدة جزءاً من الحرب بين قوات النظام السوري والمعارضة بكافة تلاوينها حتى العصابات الإجرامية منها، ورغم محاولات بعض القوى الفلسطينية التابعة لهذا الطرف أو ذاك إلا أن الإصرار الفلسطيني كان ولا يزال إبعاد المخيم عن الحرب الأهلية وتجنيب الفلسطينيين ويلات الحرب والتشريد مرة أخرى، وهم الذين ضاقت بهم الدنيا على رحابتها وأغلقت في وجوههم الأبواب. ولكن هذا لم يشفع للفلسطينيين ولم يسلم المخيم الذي هجر الغالبية الساحقة من أهله ولم يتبق منهم أكثر من ثمانية عشر ألفاً من أصل حوالي أربعمائة ألف يمثلون أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين خارج وطنهم.
العنوان كان على الجدار منذ أكثر من ثلاث سنوات عندما بدأ استهداف المخيم ولكن لم تفعل منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل المختلفة ما يكفي لحماية المخيم وتجنيبه نار الصراع المجنون، حتى جاع أهله وشردوا وغادر قسم كبير منهم سورية لدول عديدة منها دول أوروبية، وكأن الهدف هو شطب المخيم وإجبار أهله على الرحيل، وإلى الآن تبدو المهمة العاجلة لوفد المنظمة فتح ممر إنساني لترحيل ما تبقى من أهالي المخيم. ولن يكون بالإمكان على المدى المنظور العودة للمخيم وعلى الأغلب سينتهي وجوده بشكل كامل، وهذا بالضبط هو هدف الاستهداف من قبل قوى عديدة ستعمل ما في وسعها لتكريس إلغاء وجود هذا الرمز المهم لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
وتبدو خيوط المؤامرة جلية في ثلاث قضايا جوهرية من قضايا الصراع: الأرض وتشمل مختلف الأراضي المحتلة منذ العام 1967 وفي قلبها القدس الشرقية، وحق اللاجئين في العودة، وتقرير المصير بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. فالأرض تتعرض في الضفة للنهب ولمشاريع الاستيطان التي تجري على قدم وساق اليوم والقدس التي يجري تهويدها بمخططات استيلاء وبناء مكثفة. وفي هذا السياق يقوم المشروع الاحتلالي على سيادة الأمر الواقع الذي يمنع قيام دولة مستقلة وذات سيادة ومتواصلة إقليمياً في الضفة والقطاع المحتلين. وإذا تحدثنا عن الشق الخاص بقطاع غزة فحدث ولا حرج، حيث تعمد إسرائيل إلى إخراجه كلياً من دائرة الحل باعتباره كياناً مستقلاً ولا يوجد لديها مانع من الاعتراف به دولة مستقلة. وعندما يخرج مليون وثمانمائة مواطن من التعداد العام لكل من يسكن فلسطين التاريخية بفصل القطاع عن باقي أجزاء الوطن يمكن لإسرائيل التعايش مع فكرة الحل في الضفة في إطار دولة واحد تضمن فيها إسرائيل أغلبية يهودية. والحلول المطروحة من اليمين الإسرائيلي تتراوح بين بقاء الأمر الواقع وتكريسه وبين ضم مناطق (ج) لإسرائيل وترك الفلسطينيين لمصيرهم في مناطق (أ) و(ب) في إطار حكم ذاتي موسع على غرار السلطة القائمة اليوم، ويبدو أن خيار بقاء الأمر الواقع هو السائد دون اللجوء للضم الذي قد يثير حفيظة العالم، واعتراض المجتمع الدولي.
نحن بطبيعة الحال نسهل على إسرائيل كثيراً تطبيق هذا الخيار بإبقاء الانقسام قائماً بالفعل وتعزيز واقع الفصل بين الضفة والقطاع، وسنصحو على حقيقة لن يمر وقت طويل حتى ندركها، تقول لا مجال لدولة فلسطينية مستقلة، ولن يكون غريباً ألا نجد أحداً في العالم يكترث لمصيرنا الذي سيتحول إلى مشكلة بعض المدن الفلسطينية في الضفة التي ستكون معزولة وتحتاج لحلول للتواصل أو لمشكلات اقتصادية واجتماعية يمكن التغلب عليها فنياً طالما أن فكرة الدولة المستقلة الواحدة ليست مطروحة. وليتغنّ الجميع بما شاؤوا من شعارات وطنية وثورية قد تصل إلى عنان السماء، فالواقع المرير هو أن الوطن لم يعد على الأجندة والمشكلة في تقاسم ما تبقى من الكعكة.
وعندما تعالج قضية اللاجئين بعد الأرض والقدس بإزالة مخيمات اللجوء تباعاً كما يجري الآن في سورية وقبل ذلك جزئياً في لبنان، ويتم إخراج غزة التي غالبية سكانها من اللاجئين من الدائرة، تذوب هذه القضية وتتلاشى مع الوقت ولن ينفعنا كثيراً الحديث عن حق العودة والتمسك بحل قضية اللاجئين وفق القرارات الدولية. كل القضايا تتآكل مع الوقت عندما تفقد وجودها الرمزي والمادي، وسيأتي العالم ليقول لنا بعد حين: تعاملوا مع الأمر الواقع.
الحالة الفلسطينية في أسوأ أوضاعها، فمنظمة التحرير فقدت قدرتها على التحرك وعلى الدفاع عن الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده وفصائلنا عاجزة حتى عن تشكيل قوة فلسطينية تحمي أبناء المخيمات بعدما كانت قوة يحسب لها ألف حساب. قد يقول قائل إن الظروف تغيرت ولم يعد ما كان بالماضي قائماً، هذا صحيح ولكن الحاجة تقضي أحياناً بأن يتم العمل بكل ما يمكن لحماية الذات، وفي وضع كالوضع السوري الذي نمت فيه عصابات ومجموعات مسلحة كثيرة كان أولى أن يتم تشكيل قوة مسلحة فلسطينية في المخيم لحمايته ولمنع استباحته من أي جهة باعتباره ليس طرفاً في الحرب الدائرة في سورية. والقيادات الفلسطينية عاجزة عن حل مشكلة الانقسام التي تعتبر أول وأهم خطوة لتحقيق الاستقلال وللقضاء على المشروع الإسرائيلي الواضح المعالم مع أن الموضوع ليس بهذا التعقيد إذا خلصت النوايا. ولم يتبق لنا سوى الولولة واللطم والتباكي على مصيرنا وانتظار الأسوأ.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية