إشكاليات عديدة تسود المشهد السياسي الحزبي في إسرائيل، ما يحيل الأيام القليلة القادمة وكأنها تؤرخ لمستقبل حكومة ائتلاف الخصمين، وأكثر من ذلك ربما مصير مستقبل نتنياهو أيضاً، ذلك أنّ الاندفاع نحو انتخابات برلمانية مبكرة بات أمراً يمكن توقعه على خلفية أكثر من ملف: تواصل التظاهرات الحاشدة ضد نتنياهو والتي تنتقل من بيته إلى مقر حكومته وبالعكس، وإصرار المتظاهرين على أنهم لن يذهبوا إلى بيوتهم إلا عندما يعود نتنياهو إلى البيت أي التخلي عن منصبه، ثم أزمة التعامل مع « كورونا » وكذلك الموقف من الميزانية العامة للدولة، وأخيراً الملف المستعاد والمستجد: مشروع «فقرة التغلّب»، وبينما تناولنا في أكثر من مقال سابق هذه الملفات باستثناء الملف الأخير، فإننا نخصص مقالتنا هذه لتناوله.


تعتبر المحكمة العليا في النظام الديمقراطي ضرورة لا بد منها؛ كونها تقوم بمراجعة القوانين ومدى تقيدها والتزامها بالدستور، وبحل الخلافات المحتملة وتشابك الصلاحيات بين سلطات الدولة الثلاث، والأهم من ذلك لضمان عدم تسلط وطغيان الأغلبية البرلمانية وقيامها بسن قوانين من شأنها مصادرة الحقوق، خاصة حقوق «الأقليات» في الحالة الإسرائيلية.


مشروع «فقرة التغلب» يعني تعديل المادة 8 من قانون أساس كرامة الإنسان وحريته، والمادة 4 من قانون أساس حرية العمل هذه الفقرة تسمى «فقرة التقييد»، والمقصود بها تقييد الكنيست وحريته المطلقة في سن قوانين قد تتعارض مع الحقوق الأساسية للإنسان، وبالتالي تخويل المحكمة العليا الإسرائيلية صلاحية إلغاء قانون ما حتى لو تم سنه وتشريعه في الكنيست، في حال توصلت المحكمة إلى عدم دستوريته أو تعديه على حقوق الإنسان وحريته، والتغلب في هذه الحالة التفاف على «التقييد» من خلال إزالتها بحيث لا يصبح من مهام المحكمة العليا إلغاء أي قانون يصدر عن الكنيست، وهكذا تطوي فقرة التغلب على فقرة التقييد.


في أيار العام 2018، تم إقرار مشروع التغلب بالقراءة الأولى في اللجنة الوزارية لشؤون التشريع، التي كانت تترأسها وزيرة العدل السابقة أيليت شاكيد من حزب البيت اليهودي في ذلك الوقت، والآن تعيد شاكيد مجدداً إحياء هذا المشروع باعتبارها نائبة في حزب يمينا لطرحه على الكنيست في سياق حملة اليمين الإسرائيلي المتواصلة على المحكمة العليا وعلى الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، وتهدف من وراء استعادة طرح هذا الملف إلى إرباك حكومة نتنياهو كونها خارج إطارها، ولإرباك المشهد اليميني الحزبي بالنظر إلى أنّ هناك مجموعات يمينية تقف ضد هذا المشروع رغم عداء هذه الأحزاب للمحكمة العليا، فقد أعلنت كتلتا شاس ويهودات هتوراة عدم التصويت لصالح مشروع التغلب الذي من المتوقع أن يتم طرحه ونقاشه في الكنيست اليوم.


تقول الكتلتان في أسباب رفضهما للمشروع بضرورة الالتزام بمتانة وصلابة الائتلاف الحكومي وتجنب الذهاب إلى انتخابات جديدة، وأن كل الجهود يجب أن تنصب على الخلاف حول ميزانية الدولة والتعامل مع «كورونا». لكن حقيقة الأمر أن أسبابهما برفض هذا المشروع تعود لمبررات مختلفة تماماً، ذلك أن مشروع التغلب هذا من شأنه استعادة قوانين كانت المحكمة العليا قد ألغتها، ومن بينها قرار المحكمة العليا بإلغاء القانون الصادر عن الكنيست الذي يعفي تلاميذ المدارس الدينية اليهودية «الحريديم» من واجب تأدية الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي والمعرف باسم «قانون التجنيد»، وللتذكير فإن هذا القانون كان أحد أهم أسباب الذهاب إلى سلسلة الانتخابات التشريعية بعدما طالب ليبرمان بإلغاء قانون التجنيد من بين أسباب أخرى، ما أدى إلى الانتخابات المتلاحقة.


المؤيدون للمشروع يستنيرون بالتجربة البريطانية، إذا لا تملك المحكمة العليا الحق بإلغاء القوانين. إلا أن بريطانيا حالة استثنائية في العالم الديمقراطي؛ فهي دولة من دون دستور مكتوب وتعتمد على الأعراف والسوابق القضائية، كما أن من صلاحيات مجلس اللوردات إعاقة صدور أي قانون أو تشريع، كما أن عراقة الديمقراطية البريطانية كافية للحيلولة دون طغيان الأغلبية البرلمانية، الأمر الذي يمنع لدرجة كبيرة صدور قوانين تنتهك حقوق الإنسان.. هكذا يرد البعض على الدعوات لتبني التجربة البريطانية بهذا الشأن.


قد يتحدد مصير هذا القانون، اليوم الأربعاء، وعلى الأغلب أنه لن يمر، ومع ذلك فإنه سيترك آثاره الواضحة على المشهد الحكومي المتصدّع أصلاً؛ إذ من خلال التصويت - إذا ما جرى - ستظهر التناقضات والتعارضات والتقاطعات بين مختلف القوى والأحزاب سواء في الكنيست أو الائتلاف الحكومي. ومن شان ذلك التأثير المباشر على خارطة التحالفات والتقاطعات، وهو الأمر الذي كان وراء إقدام شاكيد على استعادة طرح هذا القانون في هذا الوقت بالذات.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد