لم يكن المؤتمر الصحافي الذي عقده القياديان جبريل الرجوب عن حركة فتح، وصالح العاروري عن حركة حماس ، مجرد خطوة يتيمة، حين اتضح أن الحركتين تجهزان لمهرجان شعبي كبير في قطاع غزة قيل: إنه سيعقد قبل عيد الأضحى الذي يفصلنا عنه ما تبقى من هذا الأسبوع، واتضح أيضاً أنه جاء بعد حوارات سرية جرت بين الطرفين قادها عضو اللجنة المركزية وأمين سرها جبريل الرجوب.
الناس استقبلت وما زالت تستقبل الخطوات بلا مبالاة صنعتها المحاولات الفاشلة على مدى 12 عاماً منذ أن بدأ أول حوار عام 2008. وبين تلك الأعوام الطويلة جرت حروب وسالت دماء وأجريت حوارات ووقعت اتفاقيات، ولدغت الناس من كل جحور الوهم مرات عديدة لتصل إلى مرحلة فقدت فيها كل ثقة بقدرة الأطراف على صناعة مصالحة؛ فالتجربة كانت تتجسد أمام أعينهم بكل تفاصيلها، تجربة الاستهتار والعجز.
لم يكن الصراع الدامي الذي دار على أرض غزة وانتهى بهذا الشرح الوطني يعني فقط عدم قدرة حركتي فتح وحماس على تحقيق الشراكة أو توزيع السلطة والثروة، كما يقولون، وانتهى بطرد حركة حماس للسلطة، بل كان له مدلولات أبعد كثيراً وأكثر خطورة من حيث مضامينها وتداعياتها؛ فما تركته على امتداد الأعوام الماضية كان قاسياً بشكل لا يمكن تصوره على شعب ما زال يخضع للاحتلال، ليس فقط بمفهوم أزمة المعيشة والحياة اليومية، بل ألقت في وجه الجميع بسؤال: إذا كان الفلسطينيون فعلوا هذا بأنفسهم تحت الاحتلال، فماذا سيفعلون حين ينالون استقلالهم وتصبح لديهم أسلحة أكثر فتكاً؟ ومنه السؤال الأكثر قسوة: هل هم جديرون بحكم أنفسهم؟
الانقسام والصراع على السلطة كان يعني تحليل الدم الفلسطيني واستباحته بلا خطوط حمراء، وكان ذلك لا يعني فقط فقداننا لعدد من الأبناء فقد اعتاد الفلسطينيون على هذه الخسارة منذ النكبة وفي الحروب المتعاقبة. لكن الأمر اختلف في الصراع الداخلي؛ لأنه كان يعني أننا امتداد لثقافة عربية، ثقافة الإقصاء والقتل، الثقافة الأحادية التي لا تقبل الآخر والمستعدة لفعل كل شيء من أجل السلطة.
كان ذلك يعني عدم قدرتنا في المستقبل على التوافق وانعدام الأمل الفلسطيني، وأن هناك أزمة بالعقل الفلسطيني أحادي الجانب، وبالتالي لا حلم للفلسطينيين بإنشاء نظام سياسي تعددي مستقبلاً، وأن كل الشعارات التي قيلت سابقاً عن تميز الفلسطيني وديمقراطيته، والوحدة الفلسطينية والعمل المشترك، تبين أنها مجرد مقولات أسقطها الواقع مع أول محاولة للشراكة وإذ به يجسدها ببركة من الدم والدموع والثكل والحزن والانكسار. لقد كشف الانقسام أننا لا نعرف التوافق حين كشف عن عري ثقافتنا والصورة التي رسمناها عن أنفسنا.
لقد صنع الانقسام للفلسطينيين عدواً داخلياً لكل من الفصائل الكبرى، وهذا آخر ما كانوا يحتاجونه في هذه المرحلة جعل الفصائل تخاف من الأخرى وفقدت الثقة بكل ما هو آخر، وانتهى الأمر لأن تفقد الفصائل ثقتها بنفسها مع انعدام الإنجازات لتصبح أكثر عنفاً في التعاطي مع الواقع. وارتباطاً بذلك، فقدت الناس ثقتها بمن حولها مع قسوة الانتماء، فقد المجتمع ثقته بأبنائه وارتباطاً بذلك خلقت الفصائل جيشاً من المخبرين وكتبة التقارير بحجة الحرص والانتماء، لتصبح تلك سمة رافقت مرحلة الانقسام بالهبوط بمستوى الشباب إلى هذا الحد، بل إن بعض الفصائل أقحمت أطفالاً في هذا الأمر، وتلك كانت جريمة أن ينشأ على النميمة والوشاية، باسم الانتماء.
تعطلت المؤسسات الوطنية والبنى التحتية، والهياكل كلها تعرضت للشلل، وتراجعت المؤسسات المدنية لصالح المؤسسات الأمنية، وتلك كانت واحدة من أبرز مآسي الانقسام والتي مع الزمن أصبحت كأنها جزء من ثقافة النظام السياسي.
لقد وضع الانقسام باقي الفصائل والمؤسسات في وضع شديد الحرج والارتباك، ولم تكن قادرة على تحقيق وساطة ولا الوقوف مع أي جهة ولا الحياد تجاه ما يحدث من تجاوزات، وإن أعلنت موقفاً تكال لها الاتهامات بالانحياز، وأكثر من ذلك بالتواطؤ والتآمر، وكذلك لم يكن وضع المثقفين والكتاب بعيداً عن ذلك أمام هول ما حدث، فإن وجهوا ملاحظاتهم للسلطة في الضفة يتم اتهامهم بالتواطؤ مع «حماس»، وإن انتقدوا «حماس» يتم اتهامهم بالتآمر مع السلطة وضد المقاومة، وإن انتقدوا السلطة و»حماس» يتم اتهامهم بالتواطؤ مع أطراف ثالثة ومع جهات خارجية.
وهكذا جرى إضعاف وتبهيت كل ما لدينا من مؤسسات، وفقد الجميع ثقته بالجميع، ومع انحسار الإنجازات الوطنية والإدارية فقد المواطن ثقته بالسياسيين جميعاً وبالفصائل والأحزاب والمؤسسات والمثقفين، وكان هذا هو أسوأ ما يمكن أن يحصده شعب، وكل ذلك وأكثر أنتجه الانقسام خلال سنوات مضت.
الآن هناك حراك استجد في ملف المصالحة تمثل بمؤتمر صحافي تم، ومهرجان جماهيري قيد التحضير، الجميع يتعامل بحذر، لم يعجب الأمر الفصائل ولا مثقفيها. التشكيك رسخه الواقع لسنوات ويريدون من الجميع أن يصدق بين ليلة وضحاها أننا أمام شيء مختلف، صحيح أن هناك رغبة بالمصالحة ولكنها لا تكفي حسب التجربة، صحيح أن هناك من سيتضرر منها من الذين دعموا الانقسام لسنوات، ولكن مرة أخرى ليس من السهل الثقة بقدرة الفصائل التي قطع سيفها أوردة المشروع الوطني. أي خطوة للمصالحة هي تصويب لوضع شاذ، ولكن هل يمكن للفصائل أن تنجح ذات يوم؟ لتثبت نجاحنا في امتحان الجدارة؟ يبقى الأمل قائماً رغم ضعفه...!!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية