حركة حماس تسير مسيرات ضخمة في كل أرجاء قطاع غزة احتفالاً بسقوط الوطن في أتون الانقسام وابتهاجاً بما أسموه "الحسم". المئات من الحناجر تصدح بعبارات التكبير والتهليل وهي تنزل العلم الفلسطيني عن المباني الحكومية وتستبدله براية حماس بينما تكتم مئات الأمهات صيحاتهنوالآهات وهن يتنقلن من مستشفى إلى آخر بحثاً عن أبناء قدموا قرابين على مذبح الخطيئة الوطنية الكبرى. وفي الأثناء، تراقب الغالبية العظمى من سكان القطاع المجروح المشهد السوريالي هذا بدهشة وصدمة شديدتين بينما يجوب الصحافيون، وأنا منهم، أرجاء القطاع الغائر في دم أبنائه بحثاً عن تفصيل يفسر ما لا طاقة لهم بتفسيره.
في ذلك اليوم، قابلت أحد القياديين في حركة حماس المعروف باعتداله وهنأته على سلخ الوطن وضياع قضيته فرد بابتسامة وقال: "لا تقلقي يا أخت نور. الأمور تدحرجت وخرجت عن السيطرة وما هي إلا أيام وترجع الأمور إلى طبيعتها. لا نية لحماس في الانقسام". لكن أقوال القيادي هذه كذبتها مشاهد الليل من ذات النهار، حين شاهدنا القوافل المنظمة وهي تنقل ما تم نهبه من أملاك خاصة وعامة من منازل ووزارات ومقرات أمنية فيما اصطُلح عليه الناهبون "خطوط الغنائم". وفي نفس الوقت، انشغل قياديون في الحركة بعقد محاكمات صورية في الساحات العامة لتبرير عمليات الإعدام للأسرى الفلسطينيين من الخصوم الذين أتي بهم إلى تلك الساحات مكبلين ومحملين بأكياس خيش مثل الذبائح قبل نحرها.
منذ ذلك التاريخ أثبتت حماس، وبما لا يترك مجالاً للتشكيك، أنها حققت نجاحاً يكاد يوصف بالباهر لولا قتامة طبيعته في تحقيق الانفصال وترسيخ انقسام الوطن قولاً وفعلاً. لا بل يجب الاعتراف أيضاً أن حماس نجحت في الترويج في بعض الأوساط الإقليمية والدولية بأن غزة ليست فلسطين وأن فلسطين ليست غزة، ناهيك عن حملات التشكيك والتهشيم ضد وحدانية التمثيل الفلسطيني بمعاونة بعض الأخوة العرب اللدودين، الذين انتهزوا الانقسام فرصة لمحاولة الاستحواذ على القضية الفلسطينية.
هذا الانقسام بدأ بالدم والنار واستكمل بإجراءات حثيثة ومنهجية لتحقيق الانفصال في كل نواحي الحياة. عينت حماس بعد الانفصال قضاة ووكلاء نيابة وفصلت القضاء في غزة تماماً وفوراً عن باقي الوطن وذلك تمهيداً لتغيير كثير من القوانين المعمول بها في الوطن بشكل أحادي. بالتزامن، طاردت حماس الأطباء من منزل إلى آخر حتى باتوا في عداد المطلوبين الجنائيين واستبدلتهم بأطباء جدد أصبحوا جزءاً من منظومة الانقسام وبهذا أكملت حماس وفي غضون أسابيع قصيرة عملية مأسسة الانقسام في المجال الطبي وهو كان واقعاً أثناء الاقتتال، حيث كان جرحى كل طرف يعالجون في مستشفيات منفصلة وكان لحماس شبكتها الصحية الخاصة إلى أن استولت قواتها على مجمع الشفاء الطبي إبان السقوط الأخير.
وتوجت الحركة الخطوات الانفصالية بعقد جلسة في مقر المجلس التشريعي لكتلتها النيابية منفردة واعتبرتها جلسة نيابية كاملة النصاب بعد أن أدخلت خطوة تنافي مبادئ التمثيل الديمقراطي وهي أن يمثل النواب زملاءهم الأسرى بتفويض من هؤلاء دونما أي اعتبار للناخبين وأصواتهم التي أسقطت في هذا الإجراء الطفرة! وفي هذه الجلسات الأحادية، قدمت حماس مشاريع قوانين جديدة في مجالات عدة، مرسخة بهذه المداولات عملية الفصل في المفاهيم والقوانين بين أبناء الوطن الواحد. ولافت أن مشاريع القوانين الحمساوية تلك تنافي في مضمونها المبادئ الوطنية والاجتماعية. وبهذا أسرت حماس قطاع غزة في منظومة مفاهيمها وحرَمت الاختلاف والتنوع وفرضت الوصاية الأخلاقية على أهل القطاع الذين لم يفوضوا أحداً بهذا الإقحام السافر في شؤونهم وتفاصيل حياتهم.
لم تنتهِ فصول الانفصال مع قدوم حكومة "التوافق"، فحالة النفاق الوطني الذي نعيشه لم تغير في مسار الانفصال الحمساوي شيئاً. فها هي حماس تتفاوض مع إسرائيل لترسيخ الانفصال الجغرافي مقابل هدنة ميدانية وإسقاط للمشروع السياسي الوطني دونما مواربة مستعينة بذلك بحليف عربي وآخر إقليمي يكملون من جانبهم أركان الاتفاق العار بتوفير المال والدعم اللوجستي المطلوب! وبهذه الخطوة تكون حماس قد وجهت الضربة القاضية للتمثيل الفلسطيني الموحد والقضية الوطنية وآمال الشعب الفلسطيني بالتحرر والاستقلال.
نعم، حماس نجحت ومقابل نجاحها هذا، فشلت كل الأحزاب والفصائل الفلسطينية في مواجهة النهج الانفصالي الحمساوي برؤية ونهج وحدوي بعيداً عن الشعارات الرنانة. حماس لم تتوقف يوماً عن تنفيذ مشروعها الانفصالي، مدركة أنه في غياب مشروع واضح في مواجهتها، ما عليها إلا الاكتفاء بالحديث عن الوحدة الوطنية وأهمية الوحدة الوطنية وغيرها من الشعارات الجميلة التي لا تعكس من الواقع سوى أمنيات المستضعفين من الفلسطينيين الذين أنهكتهم سنوات الانقسام القاسية.
مشهد مأساوي خالٍ من الأفق – هذه باكورة الإنجاز للمشروع الانفصالي والفشل للمشروع الوطني الناتج عن الفَلس السياسي. هذا المشهد يكشف عورات الساحة السياسية الفلسطينية والقبائل الوطنية التي لم تعد تلقى ورق توت لتستتر به. تبقى نافذة وحيدة يمكن أن تنقلنا من حالة الانكشاف هذه إلى لحظة الامتحان وفيها ستكرم الفصائل أو تهان... حان وقت الانتخابات، وعلى الرئيس محمود عباس أن يسرع في إصدار مرسوم رئاسي للانتخابات دون أن ينتظر أي خطوة من أي فصيل، وبهذا يضع الجميع أمام مسؤولياتهم وفي مواجهة مع الحقيقة، بحيث يكون الرافض لهذا الاستحقاق مكشوفاً ومنكشفاً وطنياً وسياسياً.
- See more at: http://alhadath.ps/article.php?id=cdffecy13500396Ycdffec#sthash.IDWR6DEX.MwrtfnYU.dpuf
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية