بدون أي تطيّر أو مغالاة من جهة، وبدون أي انتقاص من جهة أخرى جاءت التصريحات الأميركية الأخيرة لتعيدنا إلى نقاش جديد حول طبيعة العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وإلى مؤشرات الثابت والمتغير في هذه العلاقات.
في سبعينات القرن الماضي وفي أجواء كانت مفعمة بالحميّة الفكرية والثقافية، تركز «الاهتمام» حول فيما إذا كانت إسرائيل شريكا للولايات المتحدة أم مجرد اداة من ادواتها. وعندما كان يجري الحديث عن هذه الشراكة كان «الحديث» يسهب في تفضيل هذه الشراكة!!
هل الشراكة هي شراكة حقيقية أم انها شراكة الحصة المقابلة؟!! ام انها شراكة ترقى إلى المكاسب الحيوية للطرفين بما يصل بها (أي بالشراكة) على مستوى التكافؤ محدود الإقليم. أما عندما «كنّا» نتحدث عن مسألة «الأداة» فكان الحديث يتشعب إلى ما هو أبعد من الأدوات التقليدية للغرب في المنطقة، وصولاً إلى أداة من نوع خاص ومميز وما يمكنها القيام بدور الذراع الضاربة للغرب في مجمل الإقليم، وأحياناً فيما يتعدى حدود الاقليم وخصوصاً الدور الذي كانت اسرائيل مرشحة له في مواجهة الاتحاد السوفياتي.
الشيء الذي كان موضع توافق (وقد كان ذلك صعباً في تلك المرحلة وكان نادراً على كل حال) هو أن العلاقات الأميركية الاسرائيلية وقبلها العلاقات الأميركية الصهيونية قد نمت وتوطدت وترسخت مع تنامي الدور القيادي للولايات المتحدة على الصعيد العالمي وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية.
فمنذ ما بعد تلك الحرب تنحت أوروبا الغربية عن دور الراعي الأوحد، وتنحت عن دور الشريك الفاعل في حماية المشروع الصهيوني تدريجياً حتى وصلت إلى الشريك المكمّل في حماية هذا المشروع بعدما انتقل مركز الثقل إلى الولايات المتحدة.
أثير هذا النقاش حول دور إسرائيل وحول طبيعة علاقاتها بكل من الولايات المتحدة وكذلك أوروبا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وفيما إذا «عاد» لإسرائيل نفس الأهمية ونفس الحاجة الغربية بعد أن تسيدت الولايات المتحدة المشهد الدولي وبعد أن بدت الرأسمالية كمنتصر تاريخي ونهائي على الكرة الأرضية.
وفي هذا الاطار وهذا السياق جرت نقاشات «جادة» و»معمقة» حول دور إسرائيل الجديد في ظل تلك المتغيرات العاصفة، وفي ظل تغير المشهد الدولي بصورة دراماتيكية كاملة وشاملة. طرح في حينه ان «المهمة الدولية» لإسرائيل باتت ضئيلة، وربما انها تلاشت نهائياً عن كامل المشهد. فيما تركزت تلك النقاشات على دورها الإقليمي باعتبار هذا الدور ما زال هاماً وحيوياً لحماية المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وخصوصاً النفطية منها.
ولكن وفي كل الأحوال وعلى الرغم من صعوبة التوافق بشكل عام حتى في تلك المرحلة، فقد تم هذا التوافق على أهمية دور إسرائيل في «لجم» السياسات التحررية للشعوب العربية واحتياج الولايات المتحدة للعصا الإسرائيلية حتى ولو أن معظم البلدان العربية أصبحت تسير في الفلك الأميركي.
وأعيد فتح هذا النقاش، من جديد بعد حرب الخليج وبعد ان اقتضت «الضرورة» السياسية أن تلتزم إسرائيل «الصمت والهدوء» بعد ان ضربها العراق بصواريخ السكود المعروفة.
وفي كل مفصل ومرحلة يعاد نفس النقاش حول هذا الدور وهذه العلاقة وتجدد هذا النقاش بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وظل النقاش يعود عند كل منعطف وبعد نهاية مرحلة والدخول في مرحلة جديدة.
أزعم هنا أن هذا النقاش سيستمر عند كل المراحل والمنعطفات دون الوصول إلى نتائج يقينية لأن منهج النقاش في المسألة برمتها خاطئ بالأساس.
فبغض النظر عن التحولات التي جرت وتجري على الصعيد الداخلي في الولايات المتحدة وعلى صعيد الغرب عموماً، فإن الأمر هنا يتعلق أكثر ما يتعلق بالتحولات التي تجري في إسرائيل قبل أي تحولات أخرى.
ببساطة، فإن اسرائيل تتحول موضوعياً إلى شريك مزعج للولايات المتحدة ومن شريك إلى عبء بالنسبة للغرب، لأن إسرائيل وصلت في تحولاتها إلى مرحلة تعتقد في نفسها قوة ذاتية قادرة على «التمرد» على الغرب وإلى قوة ذاتية قادرة على المشاكسة والمناكفة والاستفزاز حتى بالنسبة للولايات المتحدة نفسها والتي هي وليّ النعمة والحامي الوحيد.
ولأن إسرائيل أصبحت عاملاً داخلياً كبيراً وحساساً في المعادلة (الداخلية) الأميركية، ولأن اليمين واليمين المتطرف في اسرائيل أصبح يدرك أن الهوامش الأميركية والأوروبية لم تعد تستجب «للطموحات» الاسرائيلية فان اسرائيل والحالة هذه تعيش اليوم من خلال سياسة نتنياهو مرحلة «الاختبار» الحاسمة حول قدرتها على انتزاع هوامش جديدة وكبيرة في اطار هذه العلاقات مع الولايات المتحدة ومع الغرب.
تراهن اسرائيل على عودة الجمهوريين سريعاً، وهي ترى أن هذه الهوامش ستصبح أقرب إلى التحقق الواقعي، وهي تراهن على تراجع الحزب الديمقراطي عن «سياسات» اوباما لحاجة الحزب الديمقراطي لأصوات اليهود في المعركة الحاسمة القادمة، ولهذا فإن اليمين في إسرائيل يرى أن فرصته للحصول على تلك الهوامش هي فرصة حقيقية تماماً، كما يرى أن فرصته في فرض رؤيته على الإقليم هي فرصة قائمة بسبب التدهور الشامل في الواقع العربي.
وبالمناسبة فإن إسرائيل ومنذ سنوات تحاول بناء شراكات استراتيجية جديدة مع الصين والهند ومع بلدان صاعدة أخرى، لأنها لم تعد «تؤمن» بالشراكة الوحيدة وهي على ما يبدو تتحاور بينها وبين نفسها وتستكشف الآفاق الكامنة على هذا الصعيد.
ببساطة إسرائيل لم تعد «راضية» عن كل الأدوار التي «دوشنا» رؤوسنا بها على مدى عقود وعقود، لأن طموحاتها فاقت كل ذلك ووصلت إلى أبعد من ذلك. لهذا فقد يضطر اوباما إلى التدحرج نحو الموقف الأوروبي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية