انتهت الانتخابات الرئاسية التونسية وأُعلنت النتائج الرسمية النهائية التي تظهر فوز المرشح قيس سعيّد بنسبة 72.71% مقابل 27.29% لصالح منافسه المرشح نبيل القروي. وبلغت نسبة التصويت 55% وهي أعلى بكثير من نسبة التصويت في الانتخابات البرلمانية التي كانت 41.3%. وسارت الانتخابات بسلاسة دون وقوع أية أحداث يمكنها تشويش سير العملية الانتخابية. على ما يبدو أن هذه النتائج ستقر رسمياً بعد الانتهاء من البت في الطعون المقدمة للمحكمة الإدارية، إذا كان هناك ما يستوجب ذلك. وعلى ضوء نجاح الانتخابات التشريعية والرئاسية التي تكررت منذ عام 2011 يمكن القول إن تونس تخطت المرحلة الأولى في الانتقال إلى الديمقراطية وتكريس مبدأ الاحتكام إلى الشعب صاحب الولاية والصلاحية الكاملة في اختيار ممثليه ومن يتولون حكمه.


الديمقراطية ليست سهلة في عالمنا العربي لأنها تتناقض مع ميراث طويلة من حكم الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت الشعوب العربية تحت مسميات وشعارات عديدة قسم منها تمت صياغته لضمان استمرار حكم الزعماء. وأيضاً بسبب وجود ثقافة راسخة تحارب الديمقراطية ولا تعطيها الوزن الكافي في انتاج نظم سياسية قادرة على التعامل مع التحديات التي تواجهها الشعوب.


للأسف انتجت ثورات «الربيع العربي» بديلاً أسوأ للأنظمة الشمولية وهو الإسلام السياسي الذي يرى في الديمقراطية مجرد ممر للوصول إلى السلطة وقد يكون لمرة واحدة فقط لا تتكرر، على اعتبار أن منظري هذا التيار يرون في الديمقراطية خروجاً عن قواعد الدين ومبدأ الشورى الذي يعتمد على حكم أولي الأمر الذي يحكمون الناس باسم الله، ولا يرد حكمهم أو يطعن فيه. ولكن المرحلة الأولى ما بعد سقوط الأنظمة في تونس ومصر وليبيا أن البديل الإسلامي ليس أفضل من الأنظمة البائدة، وسرعان ما خرج الناس ضدهم.
في النموذج التونسي كان سقوط حركة «النهضة» الذي ينتمى لتيار «الإخوان المسلمين» عبر صناديق الاقتراع، وقد سلمت الحركة بالنتيجة لسبب رئيس وجوهري وهو أن الدولة المدنية العميقة التي أسسها الحبيب بورقيبة لم تنته بسقوط حكم زين العابدين بن علي. ورفض التونسيون استبدال حكم بن علي بحكم قمعي آخر يفرض نظاماً مختلفاً عما تعودت عليه البلاد منذ الجمهورية الأولى. وفهمت «النهضة» أن عليها أن تتنازل وتكون شريكاً أو في المعارضة. مع أن التيارات الإسلامية عموماً لا تقبل الشراكة وتريد استبدال ما هو قائم وإحلال نظامها الخاص الذي ثبت فشله في تقديم البديل الأفضل بأي حال. تماماً كما فشلت « حماس » التي سبقت «الربيع العربي» بانقلاب على السلطة في تقديم نموذج حكم أفضل أو حتى ينافس حكم السلطة الوطنية بكل ما عليها من ملاحظات وما لديها من مشكلات.


الآن، هناك معضلة تواجه الشعب التونسي وهي تشكيل ائتلاف حكومي على ضوء نتائج الانتخابات التشريعية، فلا يوجد حزب لديه أغلبية برلمانية، وحتى حزبان لا يستطيعان تشكيل حكومة. وتوزيع المقاعد في البرلمان لا يمنح أحداً قدرة على التحكم في عملية تشكيل الحكومة القائمة، فالرابح الأكبر حركة «النهضة» فازت بـ 52 مقعداً و»قلب تونس» بـ 38 مقعداً والتيار الديمقراطي 22 مقعداً وائتلاف الكرامة 21 مقعداً والحزب الحر الدستوري 17 مقعداً وحركة الشعب 16 مقعداً و»تحيا تونس» 14 مقعداً، ومع هذا التوزيع ليس سهلاً تجميع 109 أعضاء برلمان في ائتلاف واحد. وعلى سبيل المثال يرفض حزب «قلب تونس» الذي يتزعمه مرشح الرئاسة الخاسر نبيل القروي تشكيل ائتلاف مع حركة «النهضة». وهذه المعضلة التي بحاجة إلى حل توافقي تواجه الرئيس التونسي الجديد قيس سعيد لكي يتمكن من أن يحقق ما وعد به الناخبين. وللعلم فقد حصل سعيد على تصويت ناخبين يضاهي ما حصلت عليه الأحزاب مجتمعة في الانتخابات التشريعية.


العملية الديمقراطية انطلقت في تونس ولكنها بحاجة إلى وقت لكي تتكرس كثقافة عامة لدى الجمهور، وبشكل أكبر لدى الأحزاب السياسية التي عاقبها الناخبون في الانتخابات البرلمانية والرئاسية على السواء. والتحدي الذي يواجه الرئيس المنتخب هو إقناع الناس بأن برنامجه الانتخابي سيتحقق وسيستطيع حل المشكلات التي انتخب من أجل حلها. وكذا الأمر بالنسبة للأحزاب السياسية التي ستشكل الحكومة. وهذه المرة سيكون الجمهور لهم بالمرصاد، وسيحكم على نتائج عملهم وأدائهم في الانتخابات القادمة سواء بالثناء وإعادة الانتخاب وربما الحصول على تأييد أكبر أو المعاقبة والانفضاض عنها وتركها تواجه مصيرها مع الفشل.


تونس تشكل أنموذجاً يحتذى، ويا ليت الدول العربية تحذو حذوها في تبني خيار الديمقراطية والاحتكام للشعب ليقرر مصيره ومن يتولى إدارة أموره، بدلاً من الاقتتال على كعكة السلطة وتدمير البلاد. وأهم ما يميز الحركة الديمقراطية في الانتخابات الأخيرة في تونس هو المشاركة الكثيفة للشباب. ونحن الآن بانتظار الانتخابات في الجزائر لعلها تؤدي إلى نتائج مشابهة لما حدث في تونس من حيث تكريس الاحتكام للشعب. وعندنا الوضع سيئ للغاية في ظل غياب الديمقراطية وغياب المشاركة الشعبية في القرار السياسي والنضالي وحتى في القضايا الأصغر. وليت الانتخابات القادمة تؤسس لوحدة وطنية تنهي الانقسام البغيض وتحصل بتوافق وطني شامل، لكي نسير على درب تونس الشقيقة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد