في جنوب المحيط الهادي تقع دولة صغيرة هي عبارة عن أرخبيل من الجزر البركانية على مساحة 12 ألف كم² وبتعداد سكاني يبلغ نحو ربع مليون نسمة فقط، مشهور عنها أنها تبيع جواز سفرها للأجانب ممن حتى لم تطأ أقدامهم أرض تلك الدولة، مقابل 150ألف دولار أميركي، حيث صار ذلك بمثابة دخل قومي يعادل نحو ربع الدخل القومي لتلك الدولة، وقد كانت «دولة فانواتو» قد نشأت جراء حركة استقلال عن الاستعمار الفرنسي/البريطاني المشترك، عام 1980 بعد عقد من الكفاح الوطني.


ومع وصول دونالد ترامب لسدة البيت الأبيض، بدأ خطاب الإدارة الأميركية الخاص بتواجد قواتها في الخارج يختلف تماماً، فبعد أن كانت تقيم الولايات المتحدة قواعد عسكرية لها خارج حدودها، بدعوى الدفاع عن مصالح البلاد الخارجية، أو بدعوى مواجهة النفوذ السوفياتي إبان الحرب الباردة، بات ترامب يقول علنا بأنه يريد مقابلا ماليا لتدخل بلاده العسكري، في ملفات الصراع الإقليمية، وهذا ما قاله بالضبط قبل أيام في لحظة كان يعطي فيها الأمر لقواته العسكرية المرابطة في الشمال السوري بالانسحاب من أمام القوات التركية لي فتح لها الباب للتوغل في الأرض السورية، ويوافق خلالها على إرسال عدد من القوات والمعدات للسعودية، لمواجهة العدوان الخارجي عليها، بعد مهاجمة ارامكو قبل بضعة أسابيع.


دون خجل قال ترامب بالحرف: لقد دفعوا، ليبرر موافقته على تعزيز الوجود العسكري الأميركي في السعودية ليبلغ نحو ثلاثة آلاف جندي، إضافة إلى المعدات العسكرية المختلفة، وهذا يعني دون ريب بأن مفهوم المواطنة، كذلك مفهوم الدولة قد اختلف كثيرا عما كان عليه قبل ثلاثة عقود، وأن منطق «البزنس الأميركي» قد طاله لدرجة أنه يمكن لنا آن نتوقع «بيع دول» عما قريب، ما دام هناك دول تبيع جنسيتها، فيما أكبر دولة في العالم تتحول بجنودها إلى «مرتزقة» بكل معنى الكلمة، تدفع بهم إلى خارج حدودها لمن يدفع لهم مقابل حياتهم ومقابل ما يؤدونه من خدمات لدولة أخرى، وربما لاحقاً لجماعة ما أو حتى لعصابة تدفع لهم المال !


لم يختلف المنطق السياسي وحسب، لكن اختلفت المواقف أيضا، فأوروبا التي لم تعد في «جيب» الولايات المتحدة، رفعت عقيرتها ضد التوغل العسكري التركي في الشمال السوري، وهي تخشى من عودة نزعة الإمبراطورية العثمانية التي كانت تحتل دولا من شرق أوروبا، أو أن يكرر العسكر التركي مجازره ضد الأرمن قبل قرن من الزمان بحق الكرد هذه المرة، وهي التي بالكاد تلتقط أنفاسها بين ناري الحماية الأميركية لصد الطموح الروسي في شرق القارة أيضا وعودة شبح السوفييت أو روسيا القيصرية، تجد نفسها أمام عدوين معاً في الشرق، ذلك أن وصول التركي لمنابع النفط في شمال سورية وشمال العراق، يعني تضخم القوة التركية.


وإسرائيل التي ظنت بأن طموحها في المشرق العربي بات قاب قوسين أو أدنى من التحقق، استنادا إلى دعم أميركي غير محدود أصيبت بإحباط، فهي بعد أن حققت هدفها بتدمير القوتين العربيتين متمثلتين بالعراق وسورية تجد كلا من إيران وتركيا وروسيا قد حلت مكانهما، لتشاركها الطموح ذاته، فتخرج من مولد الحصاد بالجزء اليسير.


أيام قليلة أو أسابيع أو حتى أشهر قليلة حتى لا نبالغ، كانت كافية لتغيير المواقف، فقد تأكدت كل من دول الخليج بأن إسرائيل وأميركا لن توفرا لها الحماية لا من الخطر الإيراني ولا من غيره بالمجان، بل لن تفعلا ذلك في حقيقة الأمر، فمواجهة مثلث القوة الإقليمي الجديد ممثلا بإيران وتركيا وروسيا ليس كمواجهة مثلث القوة السابق الذي كان يتمثل بالعراق ومصر وسورية.


وفي ظل هذه المتغيرات، حتى العامل الفلسطيني على رغم كل ما هو فيه من انقسام داخلي، وضعف الإسناد العربي والدولي التاريخي، إلا أنه ما زال يقاوم، وكل يوم يظهر عامل قوة جديد، إن كان من داخل إسرائيل نفسها، حيث يكافح العرب الفلسطينيون ضد عنصرية الدولة وتمييزها العرقي ضدهم، أو كان من المستوى السياسي، الذي سرعان ما قام بترميم البيت القيادي بتشكيل حكومة وطنية فتحاوية، تسير على طريق الفكاك الاقتصادي لتنزع من بين يدي إسرائيل ورقة معادلة الاقتصاد مقابل السلام.


ولعل ردود الفعل داخل إسرائيل تجاه وقف استيراد العجول، ومن قبله وقف التحويلات الطبية، خير دليل على ما نقول، وكل هذا يحدث ما يمكن وصفه بالمقاومة السياسية الهادئة دونما صخب، بعد المقاومة السياسية التي اعتمدت على طرق أبواب المؤسسات الدولية والأمم المتحدة.


أي أن الأمور لا تجري وفق خط مستقيم كما يشتهي اليمين العنصري الإسرائيلي ولا كما تشتهي إدارة ترامب المنحازة تماما له، بل والشريكة في مخططه لطي الملف الفلسطيني، على بلع أو هضم مكتسبات الاحتلال، وإذا ما أضيف لهذا مقاومة بي دي أس، كذلك الحراك الشعبي الفلسطيني المتصاعد وما تعيشه إسرائيل من شلل سياسي، فإنه يمكن القول، بأن أحدا لا يعرف إلى أين ستتجه الأمور بشكل دقيق، لكن المؤكد بأن طرفاً واحداً، وبالتحديد إسرائيل وأميركا لم يعد بمقدوره رسم المخطط وفق رغبته، ومن ثم ضمان تنفيذه.


وليست صفقة القرن هي فقط التي ستذهب إلى النسيان والطي، بل ربما أميركا نفسها ستخرج من المنطقة، ولن تظهر إلا كمرتزقة، كما كان حال جماعات تخريب الدول العربية التي ظهرت بدعم لوجستي منها على أي حال، أي أنها ستظهر بشكل سافر هذه المرة، دون تورية أو قناع، فيما سيبقى هناك لاعب أهم من كل هؤلاء جميعا، لم يدخل الملعب بعد، وهو شعوب المنطقة نفسها، التي ربما ستجد نفسها كما كان حال شعوب شرق أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وفي حال ظهرت المقاومات الشعبية لمواجهة الاحتلالات الخارجية، فإنها لن تقلب طاولة السياسة الرسمية وحسب، ولن تذهب بنتنياهو وترامب إلى غياهب النسيان وحسب، بل ستعيد رسم خريطة المنطقة وربما العالم من جديد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد