أقرت الإدارة الأميركية واعترفت بفشلها في "ورشة البحرين" الاقتصادية التي كان يراد منها إدخال " صفقة القرن " من الشباك بعد عجز واشنطن عن إدخالها من الباب. وقد عبر عن هذا الفشل بصراحة كبير مستشاري البيت الأبيض جاريد كوشنر الذي تم تكليفه الإشراف على الصفقة الأميركية "للسلام" عندما قال في تصريحات صحافية يوم الأحد الماضي بأن الخطة الاقتصادية ... يمكن تحقيقها ولكن ذلك لن يتم بدون القيادة الفلسطينية". ويذكر في هذا السياق أن كوشنر نفسه قد اشار في تصريحات سابقة له بعد أسبوع على عقد "ورشة البحرين" إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب "معجب جداً" بالرئيس الفلسطيني محمود عباس ، وأنه يعتقد أن الرئيس أبو مازن "يرغب في السلام، لكن أشخاصاً بعينهم حوله منزعجون بشدة من الطريقة التي طرحنا بها هذا، ورد فعلهم الطبيعي هو الهجوم وقول أشياء جنونية". وفي نفس السياق صرح المبعوث الأميركي جيسون غرينبلات أنه " إذا لم يصل الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي إلى غرفة المفاوضات فإن الأمور ستفشل".


التصريحات الأميركية تعكس إحباط إدارة ترامب من الموقف الفلسطيني الذي على ما يبدو لم تقدره بشكل جيد، وتوقعت أنه من خلال ضغوطها على بعض الدول العربية يمكنها أن تمرر شيئاً بدون القبول الفلسطيني الرسمي. وأصبح من الواضح أنه لن تكون هناك خطة أو "صفقة" بدون الطرف الفلسطيني وعملية التأجيل المتكررة لطرحها التي تعزوها أميركا للانتخابات الاسرائيلية التي ستعاد في شهر أيلول القادم، يظهر أنها ستتواصل لذرائع أخرى قد تطرح لاحقاً. وهنا في الواقع نستطيع أن نسجل انتصاراً سياسياً مهماً بتثبيت " الفيتو" الفلسطيني عربياً ودولياً وفي كل ما يتعلق ببحث الشأن الفلسطيني. بمعنى أنه لا يمكن طرح مشروع للتسوية السياسية يستطيع أن يرى النور ويبقى على قيد الحياة بدون موافقة القيادة الفلسطينية وتعاطيها الايجابي مع هذا المشروع.


الانتصار الفلسطيني في الحقيقة يفترض تفكيراً فلسطينياً خلاقاً لا يكتفي فقط بإعلان الرفض وبإفشال أي خطة لا تستجيب للحقوق الفلسطينية المشروعة المقرة في القرارات والقوانين والأعراف الدولية. وهنا نحن بحاجة ماسة للبناء على الإنجاز الذي تحقق والذي على ما يظهر سيدفع الإدارة الأميركية إلى إعادة النظر في مواقفها تجاه الفلسطينيين، خاصة وأنهم أثبتوا لترامب أنه ليس بمقدوره النجاح حيث فشل الآخرون إذا لم يقنعهم بأن مشروعه يتوافق مع مشروعهم ومواقفهم التي باتت موقفاً دولياً بامتياز. ولا يجوز الاكتفاء بدحر خطة خطيرة تستهدف تجاوز حقوقنا والانقضاض عليها في لحظة يظنون أنها مناسبة لتمرير مشروع أقرب إلى الفهم الاسرائيلي لتكريس الواقع الاحتلالي الاستيطاني الاسرائيلي في فلسطين. بل يجب النظر إلى النصف المليء من الكأس والتفكير في اطلاق عملية سياسية جديدة على أرضية وقواعد مختلفة عما كانت إدارة ترامب ومستشاروه الأقرب إلى اليمين الاسرائيلي المتطرف يريدون.


نحن في الواقع بحاجة إلى بحث جاد وعلى وجه السرعة في خيارات العمل واطلاق هجوم سلام فلسطيني على كل الجبهات، بدءاً بالاتفاق الفلسطيني الشامل المبني على قاعدة الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير وموقفها الذي يجمع عليه الشعب الفلسطيني، وفي هذا الاطار يجب الترفع عن المماحكات والمصالح الضيقة وتسجيل المواقف لصالح الانتصار لقضيتنا الوطنية التي تتعرض لخطر شديد، ووحدة الوطن والقيادة والموقف السياسي أولوية قصوى. والمستوى الثاني للانطلاق هو المباشرة بحوار واسع وشامل مع العالم العربي والبدء بمصر والأردن والسعودية من أجل تحصين الموقف العربي وتثبيت الالتزام بمبادرة السلام العربية ورفض التطبيع مع إسرائيل قبل انسحابها من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة. والضغط على الدول العربية التي تهرول نحو إسرائيل وتبحث عن مبرر ل فتح العلاقة معها على حساب الشعب الفلسطيني لوقف هذا الانحدار والتمسك بموقف الاجماع العربي.


أما على المستوى الدولي، فلا بد من محاولة فتح حوار هادئ مع الإدارة الأميركية لضمان عودة هذه الإدارة عن مواقفها التي تتبنى فيها مواقف الحكومة اليمينية في إسرائيل، وقد يحدث تغيير في الانتخابات الإسرائيلية القريبة يستدعي بحثا من نوع آخر عن عملية سلام جادة ومثمرة، والحوار ليس بالضرورة مع المستشارين المتطرفين، بل يمكن أن يكون مع أطراف أكثر قبولاً وتفهماً للموقف الفلسطيني، وأيضاً مع جماعات الضغط في الولايات المتحدة وفي الكونغرس على وجه الخصوص. وينبغي أن نستثمر في علاقاتنا مع اوروبا لتطوير مواقفها ودفعها لتكون أكثر فاعلية وتأثيراً في الحلبة الدولية، بما في ذلك إمكانية الضغط على الادارة الأميركية لخلق توازن ولو نسبي في مواقفها تجاه الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي. 


وأخيراً، يجب ألا ننسى الحلبة الاسرائيلية. فإسرائيل مقدمة على انتخابات ويوجد هناك احتمال بحدوث تغيير سياسي علينا أن نساهم فيه بكل ما نملك من طاقات، من خلال رسائل فلسطينية واضحة تجاه التمسك بالسلام على قاعدة حل الدولتين على أساس حدود عام 1967 بما يضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية إلى جانب إسرائيل ووفقاً لمبادرة السلام العربية. وايضاً تكثيف الاتصالات والحوار مع كل الجهات الاسرائيلية الراغبة في السلام وحل الدولتين لتكريس طرح المشروع السياسي على أجندة الانتخابات وتشجيع الناخبين المعتدلين للتصويت بكثافة في صناديق الاقتراع. ولا يجب أن نغفل دور الجماهير الفلسطينية في إسرائيل في التأثير على الخارطة السياسية بمشاركة قصوى في التصويت وفي زيادة عدد المقاعد العربية والمؤيدة للسلام في الكنيست القادمة. وهناك الكثير مما يمكن فعله في هذا السياق بعيداً عن التشويش والتشويه والتخوين وقصر النظر.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد