في مطلع العام 2011، انطلقت شرارة التغيير في العالم العربي، ابتداء من تونس فيما سمي الربيع العربي، بما يوحيه من تجديد المجتمع العربي، وإدخاله ربيع الحياة بعد ركود عقود طويلة، كان بسبب نظام حكم الفرد المستبد، كذلك كان الاحتجاج الشعبي السلمي هو مظهر وأداة ذلك التغيير، بعد أن ظلت السياسة لعبة النخب المجتمعية، بصرف النظر إن كانت أحزابا أو قوات عسكرية، جيوشا أو أجهزة امن أو ما إلى ذلك.
وبصرف النظر أيضا عن مقدار ما حققه الربيع العربي، مما طمحت له الشعوب العربية من أهداف، إلا أن آثار ذلك ما زالت قائمة، وفي غير مكان ظهر الاحتجاج الشعبي، لكن لم تكن ظاهرة الاحتجاج الشعبي العالمي، بذلك الحجم الذي ظهر عليه الربيع العربي، لكن كانت هناك إشارة تقول، إن شعوب العالم تكاد ترفع شعار «الشعوب تريد تغيير النظام العالمي».
والنظام العالمي في حقيقة الأمر، بدا عاجزا تماما، عن الاستجابة للمتغيرات الكونية، خاصة منذ انتهاء الحرب الباردة، أي منذ ثلاثة عقود ونصف العقد، مع ما رافقها من ثورة اتصالات كانت احد أهم أدوات تواصل الشباب العربي الذي أطلق الربيع العربي، ونقصد وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث باتت قدرة الأنظمة وأجهزة الأمن القومية أو الوطنية والعالمية على التحكم بالشعوب أصعب، وبات تناقل الأخبار والتفاعل بين الأفراد سهلا للغاية، ولم يعد بإمكان أجهزة الأمن على المستوى المحلي، وكذلك على المستوى الكوني أن تحجب الحقائق عن عامة الناس.
لكن وكما أن الشعوب العربية احتاجت شرارة حتى تطلق ربيعها العربي، كان جسد محمد البوعزيزي الذي احترق بالنار، دليلا على الفساد والاستبداد في بلاده في ذلك العام، فإن شعوب العالم تحتاج الكثير حتى تعلن ربيع العالم، الذي يحتج على النظام العالمي الحالي، أحادي القطب، الظالم والمستبد، الذي تتحكم فيه أميركا بما لا يتوافق مع القانون الدولي، ولا يقيم وزنا لديمقراطية الشعوب، أي لما تريده حقا، والمحكوم بمجلس الأمن الدولي، وهو حكومة العالم المستبدة، فهي تحتاج أولا إلى قضية صارخة، تظهر مدى الإفك الذي هو عليه النظام العالمي، كذلك فإن التضحيات هي بمثابة الوقود الذي يشعل غضب الشعوب، وهكذا فقد كانت الحرب على غزة ، كما لو كانت النار التي أحرقت جسد البوعزيزي، هي التي تطلق ربيع العالم الآن.
وحيث إن الحقيقة تؤكد دائما أن الشباب هم أكثر فئات البشر رغبة واستعدادا للتغير ولإطلاق الثورات، فإن هذه الحقيقة تتأكد هذه الأيام، مع إطلاق طلبة الجامعات الأميركية شرارة الاحتجاج العالمي ضد النظام العالمي، وقد حمل طلاب جامعة كاليفورنيا، ومن ثم بقية الجامعات راية الريادة، ربما لأن بلدهم هي دولة الاستبداد العالمي، التي تتحكم بالنظام العالمي الحالي، وهي الدولة التي تحمي وتساند جرائم الحرب الإسرائيلية، وتمنع العالم من وضع حد لحرب الإبادة الإسرائيلية التي تجري في قطاع غزة بحق الشعب الفلسطيني منذ سبعة أشهر كاملة ومتواصلة.
الشيء اللافت للنظر والذي يؤكد أن ما يجري في فلسطين، في غزة والضفة و القدس ، من صراع دموي، ما هو إلا حرب عالمية بكل معنى الكلمة، تدور بين قوى القهر والاستبداد والاستعمار العالمي، وقوى المقاومة الفلسطينية والعربية والإسلامية ومن ثم أحرار العالم، ورغم أن العالم لم يخل من الحروب الدموية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية بكل ما خلفته من ذكريات كبحت قدرة شعوب العالم على الصمت إزاء الحروب التالية، وحتى ما بعد انتهاء الحرب الباردة، إلا أن شعوب العالم لم تتفاعل ولا مع أي حرب ولا مع أي قضية كما تفاعلت مع الحرب الإسرائيلية على فلسطين، وها هي شعوب العالم تواصل التظاهر في كل مدن الدنيا، تطالب بوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وها هي دول عديدة تسعى إلى محاكمة إسرائيل في المحاكم الدولية، إلى أن توجت الحالة الشعبية الكونية بتظاهرات الطلبة، التي تتسع يوما بعد يوم، ولكن يبقى حراكها الأهم هو ذلك الذي يحدث في الجامعات الأميركية.
لا يعود السبب في تقديرنا إلى حجم المعتقلين من طلاب الجامعات الأميركية، الذي تجاوز الألفين وهذا يكشف زيف الديمقراطية الداخلية الأميركية، فالطلاب أولا يحتجون داخل الحرم الجامعي، وثانيا بالطبع بشكل سلمي، فيما بدا الاتهام بمعاداة السامية، سمجا وغبيا للغاية، وبتقديرنا تعود أهمية ثورة الطلاب في الجامعات الأميركية إلى ما سيحدثه ذلك من تراكم ومن تغيير على الخريطة السياسية الأميركية الداخلية خلال السنوات القليلة القادمة، فجيل الجامعات، اليوم، سيكون بعد عقد من الزمان هو من يقود الحملات الانتخابية، وبعد عقدين، سيكون أفراده هم المرشحون لمناصب حكام الولايات ولمقاعد الكونغرس، وربما أيضا بعد ثلاثة عقود من بينهم سيكون مرشحون لمنصب الرئيس.
ومع هؤلاء بدأت قراءات السياسة الداخلية تتغير، واستطلاعات الرأي تشير إلى تغير حقيقي في سياسات خاصة لدى الحزب الديمقراطي، تجاه إسرائيل بشكل عام وتجاه حربها على فلسطين على نحو خاص، وإذا كانت إسرائيل وبعد ثمانية عقود من إنشائها، ما زالت بحاجة إلى الحماية المباشرة العسكرية والسياسية والمالية الأميركية لتبقى، فإن خروج الإدارة الأميركية من سطوة الصهيونية المسيحية والتحرر من ارث قيادة النظام العالمي الاستعماري الذي يعتبر إسرائيل واحدة من أدواته الدولية الرئيسة، كما هو حال أوكرانيا وتايوان، ولكن بدرجة أعلى بالطبع، فإن التغير الذي يبدأ مع ثورة الطلاب، التي تذكر بما فعله آباؤهم وأجدادهم قبل خمسة عقود ضد الحرب الأميركية في فيتنام، سيفرض على إسرائيل أن تتغير، أي أن تقطع الصلة بكل ما له علاقة بإقامتها كدولة استعمارية، والتحول إلى دولة مسالمة تعيش في حدود طبيعية ومحددة، تتطابق مع حدود التقسيم، أي الدولة التي أقرتها الأمم المتحدة العام 48، كدولة مشروطة بإقامة الدولة الفلسطينية وإعادة اللاجئين الفلسطينيين، وإلا فإنها ستواجه مصير نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
إن ثورة الطلاب العالمية، في الوقت الذي ترفع فيه راية التغيير في سياسة البيت الأبيض، والتي حققت حتى الآن، ثبات جو بايدن على موقفه من اجتياح إسرائيل لرفح، وفي إصراره على مواصلة السعي لتحقيق صفقة تبادل الأسرى والمحتجزين بين إسرائيل و» حماس »، بالضد مما يريده بنيامين نتنياهو ، أي أنها منعت بايدن من الاستسلام أمام نتنياهو، وناخبيه من اللوبي الصهيوني الاستعماري داخل أميركا، فإن هذه الثورة التي تنتقل إلى كل جامعات العالم، وقريبا سترفع شعار: الشعوب تريد تغيير النظام العالمي، أو أن الشعوب تريد إسقاط النظام العالمي، وأن العالم الجديد يسعى إلى إخضاع إسرائيل للقانون الدولي، وأميركا إلى إرادة الأغلبية الدولية، هذه الأغلبية التي دائما ما يقف المندوب الأميركي سواء في مجلس الأمن أو في الجمعية العامة ضدها، وأن العالم يريد دولة فلسطينية مستقلة.
المثير للدهشة هو أن ما يحدث، اليوم، يؤكد ما ذهب إليه جون كولينز رئيس الدراسات العالمية في جامعة سانت لورنس الأميركية بنيويورك، العام 2011، أي عام الربيع العربي، حين اصدر كتابه فلسطين العالمية « Global Palestine « وفيه انتهى إلى القول، إن أهمية فلسطين العالمية تتزايد بشكل عكسي مع مساحة الأراضي التي يسيطر عليها الفلسطينيون فعليا. في حين أن ثورة الطلاب في الجامعات الأميركية وضعت معادلة مفادها: مقابل كامل مسؤولية الولايات المتحدة المطلقة عن الحرب الإجرامية على غزة، تقف مسؤولية طلبة الجامعات ومعهم أوساط شعبية واسعة جدا تمثل النخب الأميركية المستقبلية وتؤكد أنها تتقاسم المسؤولية مع شعب فلسطين في وضع حد لهذه الحرب. وبات الصراع، اليوم، كونيا، نتيجته واضحة، وهي أن نظام أميركا العالمي إلى حيث ذهب كل من حاولوا التحكم بالعالم وإقامة نظام الاستبداد فيه، وإن كانوا قد نجحوا إلى حين أو بشكل جزئي، وهكذا فإن أحلام نتنياهو وبن غفير ستذهب أدراج الرياح، ولن يذكر أحد بايدن وبلينكن إلا كأشخاص تواطؤوا على حرب الإبادة الجماعية، وكأشخاص سهلوا على القتلة ارتكاب جرائم الحرب وذلك في آخر مظاهر تلك الجرائم بحق البشرية، وفي القرن الحادي والعشرين، وعبر شاشات الفضائيات، واليوتيوبات، وفي ظل ثورة الاتصالات العالمية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد