تضيع بوصلة من يبني تحليلاته واستنتاجاته، ومواقفه، فقط من خلال الأحداث التي تجري على السطح، وتطغى عليها بشكل مفرط التصريحات، والتغطيات الإعلامية. الأحداث التي وقعت في الأيام الأخيرة في منطقة الخليج العربي، استحوذت على وسائل الإعلام، على نحو يعتقد معه البعض، أن الوقت قد حان، لتحقيق نبوءة وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر المعروف بدهائه وقدراته التحليلية، فضلاً عن قدرته على توجيه السياسات والأحداث.
كيسنجر قد قال، "إن حرباً عالمية ثالثة ستنشب، في منطقة الشرق الأوسط، ومركزها الخليج، ستؤدي إلى زوال سبع دول، وإلى أن تحتل إسرائيل نصف منطقة الشرق الأوسط".
في الواقع حين يفتقر المحلل السياسي للمعلومات المؤكدة وحين تضيع الطاسة إزاء السؤال عن الطرف المتسبب بإشعال النيران، فإن عليه أن يلجأ إلى المنطق، وإلى ربط الأحداث، والأهم هو تحديد هوية الطرف صاحب المصلحة.
إذا تجاهلنا الاتهامات التي يوجهها كل طرف للطرف الآخر، فيما يتعلق بسؤال عن هوية الطرف الذي بادر إلى التعرض لناقلات النفط قبالة سواحل دولة الإمارات العربية المتحدة، ولم يظهر أي طرف يعلن مسؤوليته عنها، إذا تجاهلنا كل ذلك، فإن الطرف الوحيد صاحب المصلحة في تأجيج الصراع هو إسرائيل.
غير أن طبيعة المصالح والمواقف، تمنع بعض الأطراف التي تعرف هذه الحقيقة، من أن تتجاهل مسؤولية إسرائيل، فالمصلحة تقتضي إلقاء المسؤولية على إيران، وإيران تلقي بها على إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.
لا يخفى على أحد في المنطقة وخارجها بأن إسرائيل لم تتوقف عن التحريض بما في ذلك تحريض الولايات المتحدة، نحو تصعيد المواجهة مع إيران، طالما أن إسرائيل لن تدفع ثمن هذه المواجهة، ولكنها الطرف الذي ينتظر الحصاد. إسرائيل عارضت بقوة اتفاق خمسة زائد واحد مع إيران، وظلت تتمسك بهذا الموقف، حتى في مواجهة الإدارة الأميركية برئاسة أوباما، وبالرغم من أن حلفاءها التاريخيين هم من وقفوا خلف ذلك الاتفاق.
تنطلق إسرائيل من قناعة مدروسة جيداً، تقوم على اعتبار الخطر الإيراني، هو الخطر الذي يحتل الأولوية في المنطقة، وذلك سعياً وراء، تحقيق اختراقات في علاقاتها مع دول الخليج، وبحيث تقدم نفسها على أنها حامية حمى الأمن الخليجي.
تعرف إسرائيل أنها لا يمكن أن تلقي بنفسها في نيران صراع مرير واسع من هذا النوع، ولكنها توظف الخطاب السياسي الإيراني، الذي يتمسك برفضه لوجود دولة إسرائيل من الأساس ويهدد بمسحها عن الخارطة، رغم معرفتها أن إيران لم تفعل شيئاً حتى الآن يوحي بمصداقية هذا الخطاب.
وتراهن إسرائيل على وجود شخصية مثل ترامب، يتمتع بكل أسباب التهور، والاستعداد للذهاب مع إسرائيل إلى أبعد نقطة لدعمها وحماية أمنها، خصوصاً وهو الداعي لتشكيل حلف ناتو سنّي تكون إسرائيل أحد أطرافه في البداية، ثم في قلبه لاحقاً.
يبدأ التغيير، حين تنسحب الولايات المتحدة، من اتفاق خمسة زائد واحد مع إيران، مخالفة بذلك سياسة الإدارة السابقة، وسياسة ومواقف حلفائها الأوروبيين الذي ظلوا على تمسكهم بذلك الاتفاق ولكن من دون أن يشكلوا حماية فعالة له.
ثم تتبع الإدارة الأميركية ذلك القرار، بمسلسل لا يتوقف من العقوبات على إيران، وعلى الشركات الأوروبية وغير الأوروبية، التي تتعامل مع إيران على خلفية الاتفاق بشأن البرنامج النووي. يبدو أن الولايات المتحدة الخاضعة إدارتها للنفوذ الصهيوني، قد وقفت أمام تقييم يفيد بأن الوقت قد حان، لكي تستثمر ضغوطها على إيران التي بدا عليها الضعف رغم إصرارها على الصمود.
واضح أنه لم يعد لدى إدارة ترامب، أي وسائل أخرى فعالة يمكن أن ترغم الإيرانيين على الاستسلام، خاصة وأن ترامب يمضي سنته الثالثة في البيت الأبيض، ما يجعله يستعجل الحصاد. غير أن نفاد الوسائل الأميركية الضاغطة على إيران، يضع الولايات المتحدة في موقف صعب، فلا إدارة ترامب قادرة على إرغام إيران على التسليم، ولا هي قادرة على أن تعود إلى الوراء، أو إبقاء الملف مفتوحاً هكذا على الوقت.
كان عليها إذاً، أن تقوم بتحريك الأوضاع، نحو التسخين، وربما أدركت إسرائيل الورطة، فبادرت هي إلى التسخين، لتوريط حليفتها الولايات المتحدة، خاصة وأن كل ما يجري، على صلة أكيدة بـ" صفقة القرن "، والجزء العربي والإقليمي منها.
لعل هوية ترامب، باعتباره التاجر، وصاحب الصفقات، هي ما يفسر الأمر، فهو لا يترك مناسبة إلاّ ويؤكد أن بلاده لن تخوض حروباً مباشرة، ولكنها ستدعم حلفاءها، الذين عليهم أن يدفعوا ثمن الحماية الأميركية.
السيطرة على النفط، وتجفيف الأموال العربية هي الهدف الأساسي لإدارة ترامب، الذي يدرك أكثر من غيره أن إيران تمتلك الكثير من الأوراق والأسلحة التي يمكن أن تلحق بالولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج، خسائر باهظة.
لا يدور الحديث عن ميزان القوى التقليدي، لكن إيران لديها القدرة على إغلاق مضيق هرمز، وتعطيل باب المندب، وإلحاق الأذى بدول الخليج العربي، وتهديد الوجود العسكري الأميركي في الخليج، وفي العراق وسورية. ولدى إيران، أيضاً، القدرة على تدفيع إسرائيل الثمن، من خلال "حزب الله" في لبنان و"الحشد الشعبي" في العراق، فضلاً عن وجودها في سورية.
إذاً فالمسألة أشبه ببالون، على الولايات المتحدة أن تقوم بتفريغه من الهواء، ولذلك يبدو واضحاً تراجع الموقف الأميركي، إلى انتظار اتصال من الإيرانيين للتفاوض، لكن هذا من غير المحتمل أن يحصل، وإن حصل ستكون لإيران الأفضلية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية