لم يكن يتوقع الكثيرون أن ينجح لقاء الفصائل الفلسطينية الذي دعا إليه مركز الاستشراق الروسي بإدارة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف في 11-13 من هذا الشهر، ليس فقط بسبب الخلافات العميقة التي سادت بين الفصائل حول موضوع المصالحة وبالذات بين حركة "فتح" والسلطة الفلسطينية وبعض فصائل منظمة التحرير من جهة وبين حركة " حماس " من الجهة الأخرى، وبعد فشل الجهود المصرية الكثيفة التي بذلت حتى الآن لتذليل العقبات التي تحول دون إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، ولكن كانت هناك توقعات بأن يفضي اللقاء إلى اتفاق حول القضايا العامة ويذيب الجليد في العلاقة بين الأطراف الفلسطينية ربما تمهيداً لاستكمال الحوار برعاية مصرية في وقت لاحق. أم أن تفشل الفصائل في التوقيع على بيان مشترك، مقترح من الأصدقاء الروس، يؤكد على القواسم المشتركة التي وقعت عليها في السابق وخاصة في حوارات 2017، فهذه مهزلة وخسارة بكل المقاييس.
وحسب ما صدر عن الفصائل المشاركة في لقاء موسكو فإن الخلاف برز في موقف حركة "الجهاد الإسلامي" التي رفضت التوقيع على البيان لأنه يتضمن القضايا المتفق عليها سابقاً وتشكل ارضية مشتركة لموقف الإجماع الوطني، مثل رفض الحركة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود العام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، ورفض الحديث عن الشرعية الدولية بما في ذلك حق العودة على أساس القرار 194. وهذا إنما يذكرنا بالنقاش الذي كان يدور في مراحل الثورة الأولى التي نعتقد أننا تجاوزناها. ولعل حركة "الجهاد" التي لا تريد أن تكون جزءاً من السياسة الفلسطينية لأنها تبحث عن الحد الأقصى الطاهر، النقي غير الواقعي والذي لا يمت لحالنا ولموازين القوى القائمة في هذا العالم بأي صلة، والتي تبحث عن التميز، والتي هي مرتبطة بموقف إيران بدرجة أساسية، أرادت هذه المرة أن تكون في خانة لوحدها غير كل القوى الفلسطينية. ولكن الغريب هو أن تربط حركة "حماس" توقيعها على البيان بتوقيع حركة الجهاد الإسلامي مع أن برنامج حركة "حماس" يتناول هذه القضايا الواردة في هذا البيان الذي اقترحه المضيفون على خلفية الاتفاقات الفلسطينية السابقة.
"حماس" برفضها التوقيع على بيان مشترك أغضبت الروس وأفشلت جهودهم في تعزيز دورهم في العملية السياسية ولتكون طرفاً في معادلة التسوية بعد الانحياز الأميركي الفاضح لإسرائيل وفقدان أميركا لدور الوسيط وقرب طرحها لمشروعها للتسوية الذي اصطلح على تسميته " صفقة القرن "، والذي قد يعقبه انسحاب أميركي من كل هذه العملية بعد الرفض الفلسطيني والعربي المتوقع للصفقة والتي قد لا تحظى بأي دعم أوروبي. والتدخل الروسي الذي كان يريد البدء باللقاء الذي يجمع بين الفصائل الفلسطينية ويخلق قاعدة حوار وأرضية موحدة لاتفاق على قضايا متفق عليها أصلاً تمهيداً لاتفاقات أخرى تخص موضوع المصالحة انطلاقاً من أهمية وحدة الموقف الفلسطيني في مواجهة التحديات والموقفين الإسرائيلي والأميركي. وفي هذا الموقف الذي اتخذته "حماس" والذي هو غير مبرر على الإطلاق خسارة مزدوجة أولاً للقضية الوطنية بتفويت الفرصة على طرف صديق يحاول مساعدتنا على تحقيق حقوقنا حتى لو في إطار مصالح مشتركة للطرفين. وثانياً لحركة "حماس" نفسها التي كانت طوال الوقت تبحث عن الشرعية والقبول الدوليين. ومنصة موسكو كانت تشكل فرصة لها للحصول على موقع مميز هناك للانتقال لمواقع أخرى مهمة.
ولا شك أن تصريحات الخارجية الروسية تعكس الحرص على وحدة الموقف الفلسطيني ولكنها أيضاً تحمل العتب الضمني لعدم الاتفاق بين الأشقاء. والموقف الروسي من زيارة رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية لموسكو هو خير دليل على عدم رضا الروس من عدم توقيع "حماس" على البيان. حيث أدلى نائب وزير الخارجية ومبعوث الرئيس بوتين إلى الشرق الأوسط وإفريقيا بوغدانوف أول من أمس بتصريحات صحافية توضح تأجيل زيارة هنية لموسكو إلى أجل غير مسمى، بل إنه أكد على أنها ليست مطروحة على جدول أعمال موسكو حالياً، لأن الروس حرصوا "على توفير أرضية للحوار بين الفلسطينيين في موسكو بما يخدم توصلهم إلى الإجماع على الأسس المبدئية للقضية الفلسطينية"، كما قال. وبهذا يريد بوغدانوف أن يقول بصراحة أن قيادة "حماس" غير مرحب بها طالما هي لا تهتم بتوحيد الموقف الفلسطيني ولا تأخذ بعين الاعتبار مواقف الأصدقاء والحلفاء.
على كل الأحوال يبدو أن "حماس" في موقف لا تحسد عليه، فهي من جهة تريد الانسجام مع الموقف الذي تأخذه حركة "الجهاد الإسلامي" بإيحاء من إيران، وفي نفس الوقت هي في تحالف مع قطر وتركيا الحليفتين للولايات المتحدة واللتين لا تريدان أي دور لموسكو في العملية السياسية بعيداً عن موقف الإدارة الأميركية. وهنا تلتقي مواقف إيران التي تريد استخدام الورقة الفلسطينية كما يحلو لها في صراعاتها الإقليمية والدولية، وموقف الإدارة الأميركية التي ترفض فكرة أن يكون لغيرها أي دور في العملية السياسية.
وهنا تبدو اللعبة غريبة فماذا لو طلب الروس من حليفتهم إيران الضغط على حلفائها بتغيير مواقفهم، هل ستعود "حماس" لمواقفها السابقة التي وقعت عليها أم تبقى على انحيازها لموقف حلفائها وحلفاء واشنطن؟ إن عدم تقدير دور دولة عظمى كروسيا في المنطقة وعدم مساعدتها لتساعدنا سينعكس سلباً على دور بعض القوى الفلسطينية التي تشعر أنها ربما تحتل مرتبة قوى عظمى. ولا شك أن المعادلات في المنطقة ستتغير قريباً. وقطر التي تدعم "حماس" في غزة تلمح أن دعمها هذا سيتوقف بعد الانتخابات الإسرائيلية أي أن الهدف منه تحقيق الهدوء حتى تمضي الانتخابات على خير لصالح اليمين الإسرائيلي. وعندها ستجد "حماس" نفسها في وضع جديد قد يضطرها لخوض حرب مكلفة وربما انتحارية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية