في ذروة غياب الصراع مع الفلسطينيين عن النقاش العام في إسرائيل، ومع اقتراب الحملة الانتخابية، نشرت القناة العبرية الثالثة عشرة تقريراً عن «خطة القرن» التي ينوي الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإعلان عنها، وقد حدّد التقرير موعد إعلانها بعد الانتخابات التي ستجري داخل إسرائيل في التاسع من نيسان القادم مباشرة.


في التقرير، وهو ما لم تقله أي وسيلة إعلام أخرى، أن « صفقة القرن » التي ستنشر تشمل دولة فلسطينية على 90% من الضفة الغربية وسيتم تقسيم القدس إلى عاصمتين: الغربية وبعض الأجزاء لإسرائيل، والشرقية للفلسطينيين، وتشمل الصفقة إخلاء مستوطنات وتبادل أراضٍ وأن الأراضي التي ستكون بحوزة الفلسطينيين في الضفة الغربية ستكون أكثر من ضعفي منطقتي (أ) و(ب).


الولايات المتحدة، من جهتها، نفت بشدة أن يكون ما نُشر صحيحاً، بل كان جيسون غرينبلات أكثر حدة في نفيه لما ذكرته القناة الإسرائيلية، مؤكداً أن قليلين في الإدارة الأميركية حتى يعرفون ماذا يحضّر البيت الأبيض. كثيرون غير غرينبلات تعاطوا مع التسريب على أنه حقيقة ما سيطرحه البيت الأبيض بعد تشكيل الحكومة الجديدة في إسرائيل، على الرغم من أن إسرائيل ربما قد تعمّدت إحداث الفراغ السياسي بحلها الكنيست والذهاب لانتخابات؛ لتقطع الطريق على أي حديث أميركي عن التسوية.


إسرائيل تعمّدت بإحداث الفراغ، وبعدها ربما سيكون رئيس الوزراء الفائز - وهو نتنياهو وفقاً لتقديرات اللحظة - لن يتمكّن من تشكيل حكومة؛ لأن المستشار القضائي أفيخاي مندلبليت يوصي بإدانته في تهمة الرشوة بملف شركة بيزك وتغطية موقع «واللا»، ولا يزال فحص الإدانة في بقية الملفات إن كانت تستدعي الإدانة، وعلى الأغلب أن يتم ذلك، وحينها تحتاج إسرائيل إلى مزيد من الوقت لحلّ أزمة الصدام المفتعل بين الرأي العام والقضاء. رأي عام يريد نتنياهو والقضاء يحاكمه، وتلك حكاية تشبه قتل رابين وإيداع أولمرت السجن؛ لإبقاء الشلل السياسي قائماً.


لكن الأهم في ذلك: هل ما قامت بتسريبه القناة الثالثة عشرة حقيقي، خاصة أن مَن قام بذلك هو الصحافي الشهير باراك رافيد المعروف بعلاقاته الواسعة، ما يضفي نوعاً من المصداقية على التقرير إلى حد ما؟ ولكن أغلب الظن وبالمنطق أن الحديث عن دولة فلسطينية على مساحة 90% من الضفة الغربية بعيد تماماً عن الحقائق على الأرض التي تحوّلت إلى واقع تمكّن الإسرائيلي من فرضه.


فإسرائيل تناور حتى الآن في حدود سقف 40%، وهي المساحة التي تحدث عنها شارون وموفاز، وتلك تحدّدت وفقاً لاحتياجات إسرائيل الأمنية بـ 60%، والتي أنتجتها مراكز دراسات ومصالح الأمن القومي، ولا نعتقد أن الولايات المتحدة على هذه الدرجة من السخاء حتى تقرّر للفلسطينيين هذه النسبة، والتي تحتّم الصدام مع إسرائيل بلا شك، وليس هناك أدنى اعتقاد بأن إدارة ترامب بصدد فتح صدام مع إسرائيل.


هذا بمعزل عن الطرف الفلسطيني، ولكن نقاش المسألة هنا يتعلق بالإسرائيلي ولا نعرف حتى الآن الموقف الفلسطيني عندما يجري الحديث عن 90% وعاصمتها القدس الشرقية، وقد يقبل الفلسطينيون بنقاش الأمر، لكن ما يدعو للشك في ما تم تسريبه أن إسرائيل تمكّنت من إقناع الولايات المتحدة بما هو أقل بكثير من تلك النسبة، ولم تكن غافلة عن التواصل مع إدارة ترامب منذ انتخابها وإقناعها بتبني الموقف الإسرائيلي كاملاً، طبعاً مع بعض التباينات التي لا تصل حد الصدام و90% من أراضي الضفة وإخلاء مستوطنات.


تمكّنت إسرائيل مثلاً من إقناع الإدارة الأميركية بأن المنطقة (ج) يتواجد فيها 60 ألف فلسطيني، بينما يقيم فيها 170 ألف إسرائيلي، وبالمنطق الأعوج طرحت تساؤلاً على نمط: مَن أسهل للإخلاء 60 ألفاً أم 170 ألفاً؟ ومع ذلك لا تطالب إسرائيل بإخلاء الفلسطينيين، بل يمكن ضمهم، وتلك المنطقة هي الأكبر في الضفة الغربية، وحين يتحالف بعض المنطق الأعوج مع القوة وغياب العدالة يكون الجواب سيطرة إسرائيل على المنطقة (ج) أقل وطأة وأقل خسارة.


أغلب الظن، وهنا بيت القصيد، أن الخطة التي تم تسريبها وقد يكون باراك رابيد تلقاها من مصادر غير موثوقة، أو تعمّدت تقديم الوجبة السياسية بهذا الشكل، بهدف إحداث الجدل في الداخل الإسرائيلي والتأثير على الناخب ودفعه للتصويت باتجاه معين وهو اتجاه اليمين الإسرائيلي.


مضمون الخطة أو «صفقة القرن» القادمة كأنها تقول: بعد الانتخابات الإسرائيلية سيدفع الأميركيون بخطة تعطي الفلسطينيين 90% من الضفة وتتطلب اقتلاع كثير من المستوطنات، وإذا فاز اليسار في إسرائيل على المستوطنين حزم أمتعتهم للرحيل، ولكن إذا فاز اليمين برئاسة نتنياهو فلن يقبل الخطة؛ لأن نتنياهو هو الوحيد القادر على رفضها، خاصة أن هناك تجربة طويلة له مع الإدارات الأميركية، وأسوؤها بنظر إسرائيل هي إدارة أوباما التي حاولت أن تفرض مفاوضات عبر وزير خارجيتها جون كيري، وتمكّن نتنياهو من قلب الطاولة وطرد كيري.


نتنياهو الوحيد القادر على الاعتراض ضد الإدارة الأميركية، هذا ما قاله أحد أعضاء حزب الليكود بأن رئيس حزب الليكود وحده القادر على تحدي ومصادمة أي إدارة تقترب من مصالح إسرائيل، وبالتالي على الناخب الإسرائيلي أن يذهب أكثر يميناً، ليس فقط بانتخاب نتنياهو والليكود بل أيضاً بتقوية كل أحزاب اليمين؛ حتى يتمكن نتنياهو من تشكيل حكومة قادرة على الصمود أمام ما هو قادم.


هذا ربما التفسير الأقرب للواقع في ظل الحديث عن «سخاء» أميركي لا يتناسب مع سلوك هذه الإدارة التي لم تتوقف عن مباغتة الفلسطينيين بقرارات تكاد تجردهم من أدنى حقوقهم الوطنية. 


لقد وقع كثيرون، ومنهم غرينبلات نفسه، ضحية تلك التسريبات الانتخابية، والتي ستتزايد مع اقتراب الدعاية الانتخابية؛ لأن الإنجاز الوحيد لنتنياهو هو رفض كل ما يتعلق بالتسوية وإخلاء المستوطنات، ويبدو أن هناك بعض الفلسطينيين أيضاً صدّقوا ذلك وعلّقوا عليه. يجب أن يرسم الفلسطينيون سياستهم بمعزل عن الانتخابات الإسرائيلية، وكان من المفترض أن تتم منذ انتخاب ترامب.. لكنها لم تبدأ بعد...!
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد