أبدأ بالتساؤل التالي: لماذا لم تنتظر السلطة الفلسطينية انقضاء العام 2014 وتغيير عدد من الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن وتوفير حظوظ أفضل للحصول على الأصوات التسعة الضرورية لإقرار المشروع المقدم، ولماذا دفعت بمشروع الاقتراح الأردني/ الفلسطيني للتصويت، علماً بأن حظوظه لم تكن مؤكدة، وأن الولايات المتحدة كانت تسعى بجهدها لإقناع ما أمكنها من الدول، بما في ذلك نيجيريا بالامتناع، على الأقل، وكما تم؟
ربما توجد إجابة على هذا التساؤل ولكن لم أجدها فيما أعلن حتى الآن من قبل أكثر من ناطق رسمي فلسطيني. ولكني أشير لهذا الأمر هنا لأنه قد ينسجم مع توقع آخر، أو تفسير مغاير لما أعلن عن أنه الخطوة التالية بعد تقديم طلب العضوية للمحكمة الجنائية الدولية. وكان الدكتور صائب عريقات قد صرح مباشرة بعد تصويت مجلس الأمن أن أولى القضايا التي ستقدم إلى هذه المحكمة هي المستوطنات غير القانونية في الأرض الفلسطينية، وأنها ستكون الخطوة التالية في هذا المسعى.
وهذا التفسير أو السيناريو المغاير لما أشار إليه الدكتور عريقات حول ما ستقوم به السلطة الفلسطينية، يجعل متابعة الاستيطان كجريمة حرب، الخطوة الثانية الممكنة وغير الأكيدة، وليست الأولى. هذا بالرغم من التفاؤل الذي أبداه مؤخرا العديد من نقاد السلطة السابقين الذين ما برحوا يندبون سوء إدارة المعركة مع الاحتلال وإهدار فرص سنحت، من بينها عدم متابعة تقرير غولدستون والتلكؤ غير المبرر في التوقيع على ميثاق روما، الخطوة الضرورية للانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية. ما هو إذاً هذا التفسير أو السيناريو المغاير وما هي الأدلة عليه؟
نقطة البداية تكمن في أسباب التلكؤ المشار إليها وما بان أنه سوء أداء من قبل السلطة الفلسطينية. ومن منظور هذا التفسير المقترح، لم يكن هذا سوء أداء بل كان مسعى متواصلا ثابتا لعدم الوصول إلى نقطة مواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة، الأمر الذي كان سيتم لو تمت متابعة تقرير غولدستون مثلاً. وقد جرى إعلام السلطة الفلسطينية من قبل إسرائيل والولايات المتحدة أن هذا خط أحمر، كما أُعلمت مؤخرا من قبل بعض الدول الأوروبية أن متابعة جرائم الحرب في محكمة الجنايات الدولية أمر يعارضونه بشدة (1).
إن هذه الخشية من الوصول إلى نقطة مواجهة حاسمة مع إسرائيل والولايات المتحدة، خاصة الكونغرس الأميركي الذي يعمل أغلبية من أعضائه كوكلاء لدولة إسرائيل، مردها عدة أسباب من بينها وجود مصالح للبعض داخل وخارج السلطة في بقائها بما في ذلك قطاع واسع من الموظفين الذين يعملون فيها وفي غزة أيضا وليس فقط في الضفة الغربية. هذا إضافة إلى برنامج الرئيس أبو مازن الذي يرتكز على المفاوضات والذي لم يحد عنه حتى الآن. ومن منظور هذا التفسير أو السيناريو المغاير لما هو معلن عنه، لم يجر تغيير جوهري في الموقف.
وحتى يمكن فهم تقدير السلطة الفلسطينية لخطوتها الأولى، أي الذهاب إلى مجلس الأمن، وما بعدها، نستذكر أنها كانت تحت ضغط شديد من الرأي العام الفلسطيني بسبب انسداد الأفق السياسي واستمرار الاستيطان وتهويد القدس واقتحام المسجد الأقصى وعنف المستوطنين المستمر. وكان لا بد لها أن تتوجه نحو الأمم المتحدة كما أعلنت أكثر من مرة خلال الأعوام الثلاثة الماضية وإن كان على مراحل.
وبعد فشل المشروع المقدم إلى مجلس الأمن الذي كان من الممكن توقعه، صرح السيد نبيل أبو ردينة الناطق الإعلامي لرئيس السلطة الفلسطينية، بأن الجانب الفلسطيني سيعود مرة أخرى لتقديم مشروع إلى مجلس الأمن. هنا ينشأ السؤال: لماذا مرة أخرى، وما يمكن توقعه؟ لا يوجد تفسير مناسب لهذا سوى أن عضوية المجلس قد تغيرت الآن مع بداية العام الجديد ووجود أعضاء مثل ماليزيا وفنزويلا من المتوقع أن تصوت مع مشروع القرار الجديد. لكن هذا يثير السؤال السابق المشار إليه آنفا، أي لماذا لم يتم الانتظار أصلاً حتى يتم انضمام الأعضاء الجدد.
حتى تستكمل الصورة، نشير إلى ما قاله سفير فرنسا في إسرائيل بعد استدعائه من قبل وزارة الخارجية الإسرائيلية «لتوضيح» الأسباب التي دفعت فرنسا للتصويت مع مشروع القرار المقدم لمجلس الأمن. وقال السفير: إن الهدف من عمل فرنسا على اقتراح آخر خاص بها هو منع السلطة الفلسطينية من متابعة جرائم الحرب في المحكمة الدولية، وأن مساعي فرنسا هذه سوف تستمر ما بعد فشل المشروع الأول (2).
وإذا ربطنا هذه العناصر مع بعضها البعض، ينشأ السيناريو التالي: كان من المعروف أن الولايات المتحدة لا ترغب باستخدام الفيتو في حال وجد تسعة أعضاء مؤيدين للمشروع المقدم، حتى لا يمر. وكان هذا ليس فقط معلوما للسلطة الفلسطينية بل أيضا كانت هي لا تريد إحراج أو إغضاب الولايات المتحدة. ولكنها كانت أيضا تحت ضغط لعمل «شيء ما» إزاء الوضع المتفاقم داخلياً والفقدان التدريجي للمصداقية. فدفعت بمشروع الاقتراح للتصويت بعد الاحتجاج الداخلي على إدخال تعديلات عليه بالتنسيق مع فرنسا، من ضمن أسباب أخرى، وعلى أساس أن الولايات المتحدة لن تحتاج لاستخدام الفيتو، لأنه سيفشل بالتصويت العادي لعدم توفر تسعة أصوات مساندة. وبهذا تكون الولايات المتحدة قد أدت «واجبها» تجاه إسرائيل بالتصويت العادي ضد الاقتراح، دون أن توفر مادة انتخابية لنتنياهو، الأمر الذي كان سيحصل حسب التوقعات في إسرائيل، حتى لو امتنعت عن التصويت، لأن الامتناع عن التصويت سينظر له كسابقة. بالتالي، إن العودة مرة أخرى لمجلس الأمن بالتنسيق مع فرنسا، بمشروع معدل، أو بمشروع فرنسي بالتشاور مع الجانب الفلسطيني، خاصة إن تم بعد الانتخابات الإسرائيلية التي ستعقد في 17 آذار القادم، قد يحوز على الأصوات التسعة الضرورية. وقد تقوم الولايات المتحدة بالامتناع عن التصويت، خاصة إن رغبت إدارة أوباما بإرسال إشارة واضحة للحكومة الإسرائيلية القادمة، من حاجة للعودة إلى مسار تفاوضي مع تواريخ محددة كما طلب الجانب الفلسطيني، خاصة إن كان مشروع القرار الجديد «يسمح» لها بالامتناع. وهذا ما سعت إليه فرنسا في الجولة الأولى، غير أن توقيته قبل الانتخابات الإسرائيلية حال دون ذلك.
وإذا أخذ بعين الاعتبار أن المحكمة الجنائية الدولية لديها 90 يوما للرد على طلب انضمام فلسطين لعضوية المحكمة، لن تحتاج السلطة الفلسطينية لعمل شيء بخصوص متابعة الاستيطان كجريمة حرب من خلال المحكمة خلال هذه الفترة. وليس من المستبعد بعد الانتخابات الإسرائيلية، خاصة إن صدر قرار بهذا الخصوص عن مجلس الأمن، أن تسعى الولايات المتحدة مرة أخرى لإطلاق مسار تفاوضي جديد قد تجد الحكومة الإسرائيلية الجديدة أنها مضطرة للتجاوب معه. وتكون السلطة الفلسطينية قد عادت إلى برنامج المفاوضات، ربما بشروط أفضل من السابق، دون الصدام مع إسرائيل أو الولايات المتحدة. وتكون فرنسا قد نجحت في إبعاد موضوع المحكمة الدولية وجرائم الحرب، كما قال السفير الفرنسي إن هذا هو ما هدفت وستهدف إليه فرنسا.
*دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية، جامعة بيرزيت .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية