حاولت حركة حماس بُعيد وأثناء انقلابها الأسود على الشرعية الوطنية أن تستخدم تعبير الحسم العسكري، وذلك بهدف التخفيف من واقع ووقع الجريمة التي أقدمت عليها آنذاك بحق وحدة الشعب والوطن والقضية.


وقد انجرّ لاستخدام هذا المصطلح الكثير من الكتّاب والمعلّقين الذين لم يكونوا مؤيدين للانقلاب بالضرورة.


دعونا اليوم نعيد استخدام هذا المصطلح (إجرائياً) وذلك بهدف تبيان ما تمارسه الشرعية الوطنية لمواجهة آثار هذا الانقلاب والآثار التي يمكن أن تنطوي على وحدة الشعب والوطن والقضية إذا لم يوضع حد نهائي للانقسام الذي أنتجه الانقلاب. فإذا ما افترضنا أن الصراع الذي كان قائماً في قطاع غزة هو صراع على السلطة والنفوذ، وهو كذلك، وإذا افترضنا أن هذا الصراع كان سيتطور بالضرورة إلى صراع على التمثيل وشرعيته ووحدانيته ـ وقد تطور فعلاً ـ فإن استخدام تعبير الحسم العسكري كان كناية عن استيلاء غير شرعي (خارج نطاق ما يسمح به القانون الأساسي وما تنص عليه المواد الدستورية المعنية بهذا الشأن)، إضافة إلى خروجه عن الأعراف الوطنية وعن كامل سياق العلاقات الوطنية في التاريخ الفلسطيني المعاصر، ولهذا فإن الانقلاب الذي أقدمت عليه حركة حماس هو الذي أدخل الساحة الفلسطينية في هذا المأزق الوطني الذي يتحول هذه الأيام إلى أزمة وطنية يمكن أن تهدد كامل المشروع الوطني.


كل وطني مخلص يعرف أن الانقلاب ما كان ليحدث خارج نطاق التخطيط والاستهداف الإسرائيلي، ولم يكن لينجح ويترسخ لولا الرضى والسعادة الغامرة التي حلت على إسرائيل بسبب قيام ونجاح هذا الانقلاب، وكل وطني مخلص يعرف ـ إذا كان مخلصا لوطنيته، وإذا كان منسجماً ومتصالحاً معها ـ أن الشرعية الوطنية قد عضّت على الجراح وأبدت استعداداً (غير مسبوق في أية حالة مماثلة على مستوى العالم كله) بهدف إنهاء الانقسام منذ اتفاق مكة وحتى يومنا هذا، وهو أمر استثنائي في مطلق الأحوال وبكل المقاييس، وذلك لأن الإحساس بالمسؤولية الوطنية كان دائماً أعلى بكثير من التفكير الغرائزي، والانتقام والخوف الدائم من تعمق الانقسام وخروج الأمور عن دائرة السيطرة دائماً وأبداً كان الهاجس الأكبر.


أما الدليل القاطع على ذلك فهو أن الشرعية الوطنية رفضت رفضاً باتاً وقاطعاً التعامل مع هذا الانقلاب الأخرق والأحمق باعتباره حالة تمرد ـ هذا إذا تعاملنا مع الأمر بحسن نية، أما إذا حيّدنا حسن النيّة قليلاً وليس كثيراً فالمسألة تصبح للأسف أبعد من البلاهة والحماقة، وتعرف حركة حماس جيداً وهي على يقين من ذلك أن القيادة الفلسطينية اختارت الحوار، وانحازت إلى التفاهم والتوافق، ولم تلجأ منذ اليوم الأول للانقلاب بكل الأدوات التي كانت تمتلكها في مواجهته. والدليل القاطع هنا أيضاً على صحة ودقة هذا التشخيص أن حركة فتح تلوم القيادة الفلسطينية على أنها (أي القيادة) لم تحسم المسألة مبكراً، وكان بمقدورها ذلك، وكان مبرراً لها ذلك، وكان بالإمكان خنق حركة حماس والتعامل معها على أساس أنها قوة استولت على السلطة في القطاع بقوة السلاح وقتلت المئات وجرحت وشرّدت الآلاف.


نعم كان بمقدورها حصار حركة حماس عربياً ودولياً باعتبار أن الواقع السياسي في القطاع هو واقع مرتد وانقلابي مارس القتل والارهاب ضد الشعب الفلسطيني في القطاع.
الآن وفي هذه الأيام بالذات أنا أسمع والكل يسمع على لسان قواعد فتح في كل مكان جملة واحدة: كان يجب منذ البداية حصار الانقلاب ومحاكمته وإخراجه من الدائرة الوطنية.


اليوم والآن فتح تلوم الرئيس على صبره، وعلى مراهناته السابقة على إمكانية الوصول إلى مخرج مناسب من المأزق الذي تورط به الشعب الفلسطيني جراء هذا الانقلاب الأسود.
كفى نفاقاً على هذا الصعيد، هذا هو بالضبط ما أسمعه من الآلاف المؤلّفة التي ألتقي بها من قواعد فتح الممتدة على طول البلاد وعرضها.


يقولون لي شخصياً كما يقولون لغيري: لقد ساهمتم في تكريس الانقسام حين لم تواجهوه بشدة وحزم وبحسم سياسي لا يقبل الجدل والقسمة والجمع والطرح.


اخترتم التقسيم (الانقسام) عندما خضعتهم للأكاذيب التي كانت تُسوّق على أنها مقاومة.


لم تفهموا أن الأمر لم يكن مقاومة إلاّ بقدر ما يوصل حركة حماس إلى التحكم والحكم.


هذا هو الجوهر وهذا هو الهدف. هكذا كان وهكذا هو الآن ولا شيء غير ذلك.


أنتم من مكنتم حركة حماس من وصول الأمور إلى ما وصلت إليه.


هناك أناس على قناعات أخرى، وهم يعتقدون أن القيادة عليها تقع مسؤولية عدم إنهاء الانقسام، لأنها مطالبة مرة أخرى وبعد اثنتي عشرة سنة من الانقلاب أن تخضع لحماس ومطالب حماس ورؤية حماس.


لا أرى سبباً لعدم احترام وجهة النظر هذه، ولكنني لا أرى سبباً مقابلاً يمنع التفكير في ما نسمعه من قواعد حركة فتح.


عندما أثيرت مسألة الرواتب تذكروا جيداً ماذا كانت تقول قواعد فتح: لماذا الآن؟


ألم يكن ذلك مطلوباً منذ البداية؟ لقد صرفتم المليارات على الانقلاب تحت مسمى (اننا نقوم بواجبنا تجاه شعبنا)، وهذا طبعاً صحيح، لكن قواعد فتح في الضفة وغزة على السواء لم تفهم لماذا لم يتم الحسم السياسي بعد عدة محاولات على الأقل، وبعد أن توضح أن حركة حماس ليست بوارد التخلي عن التحكم بقطاع غزة وأنها (أي حركة حماس) مستعدة لأن تضحي بكل أهل القطاع على أن لا تتخلى عن الحكم فيه.


أقصد أن الحسم السياسي مقابل الحسم العسكري (أي الانقلاب) كان مطلوباً قبل الآن، أو هكذا تفكر وترى قواعد فتح، وهكذا أصبحت تفكر غالبية القيادات في حركة فتح.


لكن الحسم السياسي الآن أصعب بكثير مما كان عليه في الأشهر الأولى، وربما السنين الأولى من الانقلاب.


لقد جرت في النهر منذ الانقلاب مياه كثيرة، ولم يعد ممكناً أو لم يعد كل ما كان ممكناً آنذاك ممكناً اليوم. ولهذا فإن الحسم السياسي هو سياسة صائبة وجوهرية وضرورية ولم تعد مجرد خيار من الخيارات.


لكن الحسم السياسي اليوم يحتاج إلى قمة التعقل، وإلى أدق أنواع الحسابات.


بعد سنوات وسنوات وسنوات من الانقلاب الأسود بات مطلوباً الكثير من الحسم، ولكن القليل القليل من الارتجال، والأقل والأقل من التسرع.


ولتكن محطة المجلس المركزي محطة حقيقية للحسم السياسي مع حماس بعد أن يحسم المجلس المركزي كل ما يمكن حسمه مع الاحتلال وأعوانه وداعميه دولياً وإقليمياً.
لن نخسر غير القيود، وسنربح شعبنا وقواه الحية عندما نكون واضحين وصريحين بعقول مفتوحة وقلوب مشرعة لكل وطني جاد ومجتهد وصادق مع شعبه ووطنه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد