كثيرة هي أخطاء إسرائيل، وخطاياها لا تُعدّ ولا تُحصى، لكن الأخطاء المقصودة هنا هي الأخطاء التي ارتكبتها «بحق نفسها».


الأول هو سوء التقدير الذي ساد إبان مرحلة تأسيسها حول الأقلية الفلسطينية التي بقيت في وطنها آنذاك.


لا شك أن اعتبارات متداخلة أدت من بين ما أدت إليه إلى سوء التقدير هذا.


إذ اعتبرت الأوساط الصهيونية المتنفذة في حينه، أن بقاء تلك الأقلية يساهم في تعزيز صورة إسرائيل «الديمقراطية»، بعد أن تم بوسائل التطهير العرقي الموثقة اقتلاع أكثر من مليون فلسطيني وطردهم من بلادهم.


لم يخطر ببال غالبية تلك القيادة في حينه أن هذه الأقلية يمكن أن تتحول إلى كتلة بشرية قوية ومتماسكة، وأن تبلور وعياً قومياً أصبح اليوم بمثابة كابوس يقضّ مضاجع الدولة الإسرائيلية، و»يجبرها» على مجابهة هذه الأقلية بسلسلة متصلة ومتصاعدة من القمع التمييزي الذي تقونن رسمياً في ظل سطوة اليمين القومي الديني المتطرف في إسرائيل.


في ذلك الوقت نُظر إلى تلك الأقلية كطوائف، ومذاهب ومجموعات لا تجانسية، يستحيل تحولها إلى أقلية قومية، أو جماعة وطنية متبلورة في هوية وكيانية وثقافة متجانسة أو منسجمة وموحدة، في مواجهة السطوة والسيطرة للمؤسسات الصهيونية على الدولة التي تمارس عليها ذلك القمع التمييزي.


والشعب الفلسطيني في هذا المفترق الخاص مدين للحركة الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً الحزب الشيوعي الإسرائيلي وقبله وبعده من مكوّنات هذه الحركة، وصولاً اليوم إلى هذا الزخم الوطني الكبير الذي تعبّر عنه أحزاب ومكوّنات القائمة المشتركة. تماماً كما أن هذه الحركة بدورها تعزّزت دوراً ومكانةً ونضجاً بموازاة المدّ الوطني الذي قادته منظمة التحرير الفلسطينية مما ترك هذا المدّ من تأثيرات كبيرة على دور الحركة الوطنية في الداخل.


وكنتيجة مباشرة لأبعاد تطور هذا العامل بالذات، فقد ارتكبت إسرائيل الخطأ الثاني من أخطائها الكبيرة وهو إقرار قانون «القومية».


بطبيعة الحال فإن إقرار هذا القانون وما يمثله لم يكن إلاّ نتاجاً لتحولات كبيرة ومفصلية أدّت إلى السيطرة الكاملة لليمين القومي الديني المتطرف، ولم تكن العنصرية لتتحول إلى قانون أساس في دولة الاحتلال والتوسع والعدوان لولا تلك التحولات العميقة والشاملة التي طالت كل الشعب الفلسطيني وكل الوطن الفلسطيني وكل حقوق وأهداف هذا الشعب، ولولا أن هذه التحولات قد وصلت إلى مرحلة حل التناقض ما بين يهودية الدولة وديمقراطيتها لصالح العنصرية ونظام الأبارتايد الجديد. 


في مقال الأسبوع الماضي قلت إن إقرار هذا القانون يشكل مرحلة تاريخية جديدة، كما يشكل تحدياً غير مسبوق للشعب الفلسطيني، ولكنه بالمقابل يمثل فرصة تاريخية جديدة غير مسبوقة، أيضاً.


أزعم هنا أن إقرار هذا القانون كخطأ تاريخي قاتل أوقعت إسرائيل نفسها فيه يُحدث أو بدأ يُحدث خلخلات مجتمعية إسرائيلية هامة وحساسة، ولكنه سيُحدث من الخلخلات ما هو أكبر وأعمق من المرئي في المدى المباشر، وسيُحدث تصدعات واهتزازات خطيرة وربما حاسمة في المدى المتوسط.


الأمر الهام والهام للغاية على هذا الصعيد ـ وقد أشرنا إليه في المقال السابق ـ أن إقرار القانون قد تم بأغلبية اثنين وستين صوتاً فقط، وأن الاستطلاعات التي أعقبت إقرار القانون مباشرةً دلّت على أن أعلى سقف ممكن في تأييد هذا القانون قبل أي خلخلات واهتزازات كبيرة لم يتعدّ 65% من المجتمع الإسرائيلي، وهي نسبة مرشحة للتقلص والهبوط مع كل ردود أفعال جماهيرية منظمة في الوسطين العربي و»اليهودي»، ما يعني أن هذا القانون بدأ بالتحول إلى نقطة ارتكاز جوهرية واستقطاب سياسي وثقافي مركزي جديد، أصبح من الممكن بموجبه قيام تحالف فلسطيني إسرائيلي ضد القانون وضد العنصرية.


ليس مهماً ولا جوهرياً في هذه المرحلة أن نبحث في خلفيات الرفض لهذا القانون في المجتمع الإسرائيلي، وليس مهماً ولا جوهرياً أن تتطابق المنطلقات والأهداف بالكامل، وذلك لأن المهم والجوهري هنا هو أن قطاعات وفئات كبيرة ومرشحة لكي تكون أقوى وأكبر باتت، موضوعياً، مستعدةً للتحالف مع القوى السياسية الفلسطينية الناضجة لمواجهة العنصرية، وهذه هي المرة الأولى والفرصة الأولى لقيام هكذا تحالف.


يكفي أن يكون الهدف هو إسقاط العنصرية، ويكفي أن يؤدي العمل المشترك إلى تغيير الصورة، وإلى فهم حقائق ضرورات التعايش، والبحث عن حلول فعّالة يفرزها الكفاح المشترك ضد العنصرية.


يكفي أن تهزم العنصرية لأن في هذه الهزيمة بالذات تكمن حقائق البحث الحقيقي عن حلول جدية. لا مجال لتعايش العنصرية مع الاحتلال، ولا مجال لهزيمتها بدون انهيار منظومة الاحتلال.


للمرة الأولى في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تبرز حتمية أن يتحول الاحتلال إلى بند رقم واحد في أجندة إسقاط العنصرية.


عندما نتقدم على مستوى محاكمة العنصرية في مؤسسات القانون الدولي، وعندما يتحول المجتمع الدولي بكل مؤسساته التشريعية والرسمية والشعبية إلى قوة ضغط فعّالة، لن يتمكن أحد من فصل مجابهة العنصرية عن تفكيك منظومات الاحتلال، بما في ذلك، وربما على رأس كل ذلك، منظومات التوسع والعدوان والعنصرية التي يمثلها الاستيطان.


هذه مرحلة النضج وليست مرحلة الترف التنظيري حول الانسحاب من الكنيست ، وحول التقوقع القومي، وحول حلول الدولة الواحدة، والدولة الثنائية القومية وغيرها، من المسارب التي لا تفضي إلى شيء من الناحية العملية. ليس مطلوباً أن يتخلى أحد عن برنامجه الوطني، ولكن كل وطني مطالب أن يفهم التغيرات والتحولات التي تعطي لبرنامجه زخماً جديداً، وقوة دفع هائلة، والتي بدونها، وبدون فهمها، وبدون معرفة كيفية الاستفادة منها لن يجد نفسه إلاّ على هامش اتجاه التطور المركزي لسنين طويلة قادمة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد